إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 9 مايو 2008

( شىءٌ ما يُحاكُ فى صدرى )

أرى نفسى مُتَّجهاً بمفردى نحو فساحة واسعة ، أرضيَّتها من بلاط رخامى مائل إلى البياض ، فيما عدا بعض الرُّقوش الدَّقيقة المُزهرة الألوان ، قُذف فى روعى أنَّنى فى حديقة عمِّى المطلَّة على شارع عبد السَّلام عارف، رغم أنه لا يظهر من هذا المكان ، غير الفساحة الشَّاسعة واتِّجاه البناء . أناسٌ بثياب سوداء ، هناك على أقاصىالتُّخوم يبدأون فى الظُّهور تباعاً . صامتون لا تصدر منهم نأمة . واقفون كطيف لا يحطُّون على الأرض بالرَّغم من اقترابهم الشَّديد منها .
خشيت من جوِّ المكان ، وفكَّرت فى التَّراجع نأياً بنفسى . وكما ينبغى لمأزوم يودُّ الهرب التفت محاولاً السَّير باتِّجاه البوَّابة التى أتيت منها ، فلم أستطع . أشعر لقلبى وجيباً شديداً ، ثم ما إن أقنع نفسى بأنّ هذا الذى يحدث لى يحدث نهاراً ، حتَّى أُفاجأ بأن الظَّلام حالك لا بياض فيه ، وأن ذوى الملابس السَّوداء ، أولئك المجلَّلون بصمتهم تُضيئهم قناديل معلَّقة بأياديهم ، فيشخصون كهياكل عظميَّة بلا لحم . أصرخ بما تبقَّى لى من تماسك فلا يخرج لصراخى صوت .
واحدٌ له مظهر جدِّى المتوفِّى بلحية بيضاء طويلة يقترب منِّى ببطء . عيناه تجحظ بمقتٍ شديد لى . يلتفت بوجهِه ناحية البناء ، ويعطينى جانبه .فجأة يُرفع أمامه قبر بشاهده لم يكن موجوداً . صوت نانا الذى يبدو أنَّه ليس غريباً علىّ ، ينادينى من جهة ، لا أستطيعتحديدها . هناك جوٍ ما من فجيعة لا أستطيع لمس مظاهره ، لكنَّنى أشعر به داخلى .
الآن ماعدت فى مكانى كما كنت . أنا مقعىٌّ فى جوف قبر مترب تملأه روائح عفنة عتيقة ، آكل بنهمٍ من لحم امرأة متوفَّاة قريباً. أعلم أنَّها والدة زوج عمَّتى . لكن فيما يخصُّنى لا أشعر بأى تقزُّز ، وأستغرب منِّى ذلك .
بإصرار يُزيح الجدّ فوقى اللوح الرُّخامى ليغلق الكوَّة الوحيدة للقبر من أعلى . ولأوَّل مرَّة تختلط علىَّ ملامح وجهه بملامح وجه أبى . وكمن هو قانع بما يحدث له لا أحاول التَّشبُّث بالكوَّة للاندفاع قافزاً . خشيتى من حُلكة الظَّلام المُحدق ، وضيق القبر ، لا تجعلنى أدع ما أنا مُقبل عليه بنهم . كل ما هنالك أنَّنى أرى نفسى بعين أخرى ، وكأنَّما استكنت لشىءٍ لا مفرّ منه كان لا بدّ أن يحدث .
هذه العين التى تراقب المشهد هى التى يُداخلها فزعٌ مُروِّع . أمَّا أنا فأظنُّنى مُفرَّغ تماماً من أى وعى يُشعرنى بحالتى التى استحلت إليها . ودون أن يكون هناك ودق مطر ، أو حتَّى غيمة واحدة بالسَّماء ، أسمع هزيماً يهزُّ اللوح الرُّخامى . وإذا بالجدّ يضع رأسه بين اللوح والحافة، ثم يدفعه بقوَّة فيُسمع صوت اصطكاك له خفيف ، ويسقط رأسه على مقربة بجانبى دون أن أعيرها اهتماماً. فهل ظللت على هذا الحال ، حتَّى بوغت بجسدى وقد غطَّاه الحصى ، وفمى وقد اكتظَّ بكمٍّ هائل من تراب مُندَّى بصنان له رائحة البول . فيما الفراغ حولى ، لا يكفى لزفرة هواء واحدة أطلقها ، جرَّاء هذه الخفافيش التى راحت بسرعة مخيفة تصطفُّ حولى بعضها فى إثر بعض ، وهى مُدلاَّة من أرجلها بخيوطٍ غير مرئيَّة .

الغريب أنَّه يكاد يكون مرآى لها مألوفاً بالدَّرجة التى أفزعتنى .

من صفحة 309 حتى صفحة 312 من النَّصّ الروائى " حى شرق " .

ليست هناك تعليقات:

Facebook Badge


Jobsmag.inIndian Education BlogThingsGuide