إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 14 مايو 2008

مقطع من النَّص الرّوائى " حى شرق " .

{ولدواعى تعجيل . غير مقبول رضائيَّاً أن ننقطع
لاعاشة منقوصة }


نحن الذين نعبر بين ضفتين ، نستعير وسادات خفٍّ . ثم لا نرى بأساً فى كوننا ، ولربما لدوافع بقاء ذى بريق نختال مترنحين كأرجوحة .فالبتَّة لا جدوى من اعتقادٍ ما ، بأن هناك داعياً للزوم مساراً بعينه، أو الإفراط فى التَّضييق على من يحتفى قليلاً بشهوة الجنوح .تكفينا العطلة الواجبة بين حينٍ وآخر ، والتى تُلزمنا لبعض وقت . ثم كيفما حدث لن نكون عاتبين ، إذا ما نُعتنا بأسماء لاتتفقوالجسارة فى شىء . وكذا عفواً إذا الأسماك الميتة معلقة ببطونها البيضاء*. وإذا لا قدَّر الله شواطىء رام الله ، خلا القيمة المهداة إليها للاصغاء ، قد تُلجئنا تباعاً ، أو بتعبير أدق قد تُجيز لنا أن ننظر إليها بعين رحمة ، جرَّاء قصفٍ مُشدَّد . وعندها لا يناط بنا إلاَّ أن نحشد لها المساعى ، ونذكرهم بتواريخ فائتة .ولهالم جوستلوف ذات العدَّة آلاف ، وأخريات لم نذرف عليهم ، فى حينها دمعة أسف واحدة . وكمرجع نهائى جد مغرمين بما يُقال عنا من شطط الجنوح . وأن وجودنا قد يكون مرهوناً بقذيفة قد تُخطئها يدٌ مرة وإلى الأبد .ألا ليت قرون استشعارنا تظهر كحشائش ماء طافية ، وساعتها ربَّما يعلم بعض بشرنا المعصوبى الأعين كمّ ما يتسنَّى لنا أن نتمثله منمشاعر عفوية. فما هو صحيح بالضرورة ، قد يكون غير مقبول رضائياً ، وبذات الوجوب بالنسبة لنا. بل ويصح أن ينقطع إلاَّ كداء عقام ، يُكرِّس لإعاشة منقوصة . لا جدوى من استيهام لحيظاتها . ولا مثلاً التَّساؤل فرضاً عمَّا ينمو الآن بين إمام وإمرأته . حيث التحسُّب للنظرات التى ترنو بها إليه ، إذ عبثاً تُجاهد فى فهمه ، واستنطاق انزعاجه الأخير عليها . وكيف تكون المقاربة صحيحة على هذا النحو . وهى تعلم علم اليقين أن نُهال قد انتزعتمنه القلب . ومراراً مازلن يؤكدن صويحباتها لها ذلك . إذ الهواجس هنا تنفجر بالطريقة التى ينغلق دونها كل مسلك . وحتَّى لو أبدينا نحن الذين هنا القليل من التَّذمُّر لاصطدام عربتهما بحافتنا المدرَّجة ، فلن تستعيد هى انتباهتها ، أو تستنفد طاقتها المهومة بالتخيُّلات .إنها المراجحة بين أحاسيس ذات تمظهرات ملتبسة . تعدو بفوران العاطفة، وتؤوب بأشدِّ الأخطال بعثاً على الأسف . هكذا بالضبط مثلنا تماماً ، ومثل طاهر الذى هو الآن نهب تخيلاته الملتاعة، وعلى ، ويوسف ، وجابر ذو الخمسة عشر حفيداً .لم يعد فى الوسـع شيئاً ممَّا كان يُبده زائرينا بعد حرب كيبور . فالطائر سيمر أمام رؤوسنا . ومنكب من دم سينهض لأجله ، وسيضم جناحيه فرحاً على ذروة. وسيأتى الظل ليرفع من صوته العلامات*.قال : ثمة عندليب يشجو بين المويجات السارحة والمأذنة . ويحدث أن يُقطِّر رطباً فى الحنجرة ، ومن شعره الغجرى نعزو نسائم من الوجه تهفو كنذير فرح .ونحن نقول : أنتم يا أناسنا شفَّافون ، وميَّالون لأن تكونوا نهباً لفرط تأثركم بمشاعر عارمة ، وعموماً تجيزون لتوهمات مدَّعاة ، أن تصطبغ بظهورات أيَّامٍٍ لكم فيها ترجِّى . أذاهبون لخيانات أُخر تقاسمكم اللحظة ؟ أم يسوقكم الاعتقاد بأنَّ ما تمنحونه ، أو تقتنصونه حالئذ كفيل بأن يُسوِّغ لكم تماماً أى سقوط عفوى ؟ وربما ساعتها تودون على ما نعتقد لو تعوضون بسخاء عن شعور ملازم كقبضة . إنه هو بالضبط نفس الشعور الذى ينتاب الآن عصام حابك ، وهو يتتبَّع بعينين دربة وخبيرة ، ردفى المرأة التى تخطو الآن خارجةً من عتبة حانوته ، دون أن تُسمِّى لها عنواناُ .على كلٍّ ، لماذا لا يخامرنا الشَّك لحظة ، بضرورة تلوين كل هذه العتيمات التى تتزين بألقتها تباعاً . شريطة أن تُخَصَّ قناديلنا المعلقة على الجانبين ، بمزيد من ضوء ، يقوِّض كثير من غيم أمسية نظنها ماطرة ؟ بالرغم من أن هذا بالطبع لا ينقض من وضعيّة كوننا محصورين بين يابسين .وبذات القدر الذى يُمكن أن نُسمَّى فيه برتَّاقي فتوق . إلاَّ أنه من حين سعى جنرال أولئك المفتونين لأسر قائد بحرية جيراننا، ونحن نستقبل من أخداننا الجوَّابين، بشفافية وضَّاءة، وبشكل متوالى دورى آلاف الإشارات تحذِّرنا الاقتعاد، والاكتفاء بذلك المسمَّى المذكور سالفاً .نعم إنَّها اليوم حالة من المزاملة ، ووطأة نرزح تحتها جميعاً ، ولا نستطيع أن نكون عنها بمنأًى .إنه خط المواجهة القديم .يوم أن كنا ننام حتى الفجر كنمرٍ مرقَّش ، ونستسلم لسواد الزُّرقة العميق*.ولا تكف قناديل البحر المسرفة فى عفويتها ، عن تذكيرنا بتواريخ لم تزل تتناقلها سلالتهم بتصنيفٍ نوعى .الطّراد سدنى يُغرق الطراد أمدين الذى سجَّل لنفسه تاريخاً بطولياً . والقبطان فون مولر يقاوم وعينيه على جزيرة دايريكشن لمدة أربعين دقيقة ، بينما سفينتة تتهاوى من حوله قطعة قطعة .هى الرَّغبة التى تزداد إلحاحاً إلى مسامرة وقائع بعينها، وتجتاحنا كلَّما كان الزَّمن فيها جيَّاشاً بالصيرورات ، أو بالمخاطر ذات الشَّأن ، والتغيرات الملتبسة . فهل نوعز الآن للعابرين أمثالنا بأن يتدثَّروا بهذا الشَّيىء الذى يتعذَّر تسميته، ونستعيره من الدِّفء ؟ أم لا نطنطن إلاَّ بخلاف ذلك .نتفهَّم حقَّاً كيف تكون عليه البدايات الواعدة ، وما أُوقِظَ فى جسومنا جرَّاء الملاوبة بين قارتين .فبون شاسع من المفروض أن يهبنا المسافات ، لكنه تصادف دينا أن يصير شبه رتق ، وما يترتَّب خليق بأن يغرى أمثالنا بما يغالب شعوراً مُخطَّأً بالحصار . ثم من العسير التَّعامل معه كمعطيات ناجزة ولامفر .فمن الباخرة الحربية جراف سبى ، حتَّى رويال روك والبريطانية كليمنت . يشوقنا الاصغاء ، ويتنازعنا كهذا الحُلُك الذى بدأ فى غشيان سمائنا على امتداد المرمى .أية أُُلقة هذه التى تُمارسها مصابيح ضفتينا المفتونة بضوئها ؟ أتود أن تنفث فى النُّفوس بزخم صخبها المكتنز بأثر حيواتٍ غابرة ؟كل التلوينات المشعَّة بشجنها البنفسجى ، من المؤكَّد أنَّها تُبدِّد الآن ما خصَّ بعض أُناسنا من ترسُّبات نهارٍ طالت وطأته ،وهاهو يبدأ فى الانزياح . ويجوز أنه وبغير مساعٍ بكر أن نتلقَّى ، وعلى نحوٍ قد يكون كاملاً ، وليس شائهاً أو ممسوخاً ، كثيراً ممَّا تُطنب المويجات فى ارساله لحفافنا . بل وسويعة ، وراء سويعة ، قد يتسنَّى لها أن تحيل رؤوس بشرنا الأيابين بالوحشة إلى مغارات داخلية تومض بأشدّ الخيالات بهاءاًً . ووقتها قد لا يكون كافياً أن يجزموا أَأجواء كهذه جديرة بالسُّكنى ، أم بمجرد فقط العبور ؟الشِّيخ إبراهيم الشَّريدى ، والأستاذ جمال مطر، والمتر وهيب، جميعهم تملكت منهم هذا المساء فكرة قاسية ، بأنه من المستحسن إذن التَّملُّص من مناخات كهذه ، لاتهبهم إلاَّ زيف الأقنعة ، والرّطان الصَّوتى فى مقاه عامرة بالموتورين ؛ إذ لماذا يُدكُّ مثلاً بيوت إخواننا النَّاشطين ، ونحن مازلنا لا نولى اعتباراً إلاَّ للمسامرة ، ولعبة النَّرْد .هم ضجُّوا بالمواقف السَّالبة . وهذا شأنهم . وعقب كل ضربة قذف ، لا يمكن أن نستنكر منهم ما تضُخُّه ألسنتهم من رطان له نفس وقع التَّذمُّر . هنا يجب أن يكون البكاء ، وصرير الأسنان . وإلاَّ كان الحال بالضَّرورة يستثير كلُّ ما يمت إلى المهازل من فقدان منطق . بحيثُ يصير سهلاً أن نُلقى بأوهام أيَّامنا فى العراء ، ونعود فنجدها هياكل قد صُفَّت .إنَّنا وبالطريقة الأغرب ، وعلى غير ما نقصد ، لانعتبر أنَّ مراوحتنا الدَّيدن بين هاتين الضَّفتين ، هو ما يتوقَّف عليه حصراً بلوغه فعلنا الكائن وجوباً .ولم نعد مضطرين مثلاً ، لاستجلاء أموراً من قبيل عدِّ رؤوس النَّازحين من عمارة الفريبور ساعة الظَّهيرة .الإمبراطور ، والمساجرية ، وحرَّاز ، وممفيس ، ومس ديور ، وأخوان قوطة ، وملفاى ، ومونديال ، وتوتال ، وجيوفانى ، ولورد ، وجيت سنتر ، كلها علامات منتصبة كشواهد كافية لنشر وفرة من الصَّخب ، بدوافع بقاء من العسير تصوُّر البتَّة مداخلنا بدونها .نحن مُكتنزين حقاً كما ترون بهوس التَّجمُّعات ، غير أنَّنا لا نطالب أحداً بأن نكون راموزه ، أو يندِّد بما يراه عكس ذلك . وحين فرضاً يتعاظم انزعاج بثينة من قبضة الحاج مردان ، وجذبته الشَّديدة لجسـدها باتِّجاه ممرّ المخزن . فنحن مأذونين وبآلية نُرجعها إلى تكويننا ، بأن لا نسمِّى ذلك خطأ بنقض العفَّة ، وما يتلوه من توابع ، بل نجوس مترعين ببشرٍ هذا هو حى أفعالهم ، وصُغَارهم الَّذى يفضح مايجوش بمخيلتهم من نزق .إنه سراب اللحظة وغوايتها الَّتى تلتهم عن طول رضا فضاء العمر المقنَّع بذرائعه ، والَّذى يُشهر تهويماته فى وجه من يتأمَّل .دوماً كنَّا وبخاصيَّة الهجوم على الوقت، بمثابة أجهزة حاضنة ، وحبلى بالتَّعجيل ، ثمَّ بفعل المناجزة للأمكنة نستطيع أن نفلت من عقال المسافات . وبين جب ، ونوت يُهيَّأ لنا أنَّنا نفرد شراعنا ، ونقلع فى دوريَّات كظيمة ، حيث أصواتكم حولنا فى كل نقلة مبعث الفرح لجرْمنا، وتصييت نسترجعه عادةً بهائل رغبة ونستمد منه الرِّثاء فى ورش الصِّيانة .صالوناتنا بحيِّزها الضَّيق ، وفساحاتنا المكتنزة بالسيارات الجديرة بملاحظة درجة تراتبيتها فى ميدان الوجاهة الإجتماعية ، مشهدُ يجد سببه فى تلك التَّحولات الَّتى تعصف بمدينتنا . فكيف لنا ثم كيف لنا وسط خضم هذا الصَّخب المفخَّم ، أن نستكن برهة ، أو نجنح لما يُسمَّى فى أعرافنا بمحاذاة الكسل ، أو تفريخ الكمون؟!إنَّه الحراك الذى يفطن إليه رؤوس الأصحَّاء ، ويمنح عابرينا ساقا رهوان ، فإذا سفينتنا تواصل دورتها فى مياه نسرسر ،وتسبح علىالقبَّة الزَّرقاء فى ريح رخاء*.لايعنيها ، إلاَّ ما تمخره من آفاق ، ولا تحتفى إلاَّ بكونها متأرجحة بين يابسين . فاصمتوا هادئين أيها الصَّيَّادون . إنَّنا نعرف لغتكم جيداً ، ونعرف ما يورق فى رؤوسكم وقت أن تمدُّوا أياديكم من فوق السَّقَّالات ، وترمقوننا بنظرة عابرة . فهل نلهج بأسماء مَنْ يدأبون يومياً على عقد معايشهم بوضعيَّة كهذه ، خالية من أن تقدِّم لهم شيئاً ذا بال ، فيما آخرون لايتورَّعون عن أن يستبدلوا سياراتهم الشَّبح كل عام ؟!حى البودرة ، أو حى البرنسات ، كلها مواطن لتصدير نزقهم إلى فساحتنا .أوَ نحدِّثكم عن واقعة البرنس دياب مع سليل عائلة النَّجَّار، والعركة التى جعلت زجاج صالوننا يتهشَّم ؟ أم نسند مقدمتنا للحجر ، ونقول : ما من شىءٍ أجدر من بهجة تمنحنا إيَّاها عرائس السَّماء ، والبرَد الذى يتحوَّل فى غير موعده ، مذ يومين ، إلى قطيرات .وكلَّما طالعتنا وجوه مثل وجه الممرِّضة سعاد ، اجتررنا حادثتها التى جرت ، ورفضها ترك مستشفى بورسعيد العام ، ثم أولينا اعتبارا خاصَّاً ، لحجتها التى لا تكف تُطلقها عن فيروس c الذى استوطنها جزاء خدمتها فى العنابر .هو مزيجٌ من التَّشوُّش ، والصَّخب الدَّاخلى المفرط ، ثمن حركات الافضاء التى نلمحها بدرجاتٍ متفاوته فى عيون مَنْ يحطُّ لدينا ، وتقوده مساعٍ مبهمة ، لمعاودة ارتحالاتٍ لا يستطيع منها التَّملُّص .فهذا الرَّائد خالد يتنكَّر فى زى صيَّاد ، وبحصافة تُهيِّئه لأفعالٍ جسورة ، يقبض على الأمبراطورة الحسناء . ثم ها هو يُجيز لنفسه ، وهو يخطو نحونا ، أن يُبرز اللمعة التى تتألَّق فى عينيه .وهذا هو العقيد هلالى ، يتقدمه بخطوات ، ومازالت تدهمنا نظراته التى اتَّخذت سمتها الحاد ، جرَّاء ضرباته النَّاجعة التى ينزلها يومياً بأوكار مافيا المخدرات .نقول : ألا إنه قد تعاظمت ألفتنا بكم أيها البشر المقتعدون أحلامهم الزَّلقة . ولم يعد يكفينا منكم، أبداً ولو بشكلٍ حصرى ودونما عمد أو تمحيص ، إبراز الصِّلة بين رجفة أقدامكم ، وبين ما ينفتح أمامكم من طاقات .هنا كان ما تيسَّر من وقائع حاولتم مناجزتها بنفس التَّورُّط الذى يلزمها بالضَّرورة ، وهنا أيضاً سيكون تشوفكم الذى يجُبُّ كل ماعداه .أفبم صبوة تظل ترتع فى جوانحكم ، تُصيغون عبر الاجتهاد عبثاً كل ما يُشكِّل بالكاد إيقاظاً للبهجة ؟! أم تبدون لأوِّل وهلة كناقضى عُمر؟!على كلٍّ ، إنَّ ما يتذرَّع به – استثنائياً - خلائق يخصها الاعتقاد بصحته ، هو من قبيل المجازات التى تُستعار لفترة ما من الحين ، دون أن ينقص هذا من وجاهتها ، أو اسباغها نفعاً لبعض وقت .فهاهى عربة نقل الموتى ، تقبل فى هدوء الجنازات، دون أن تنشغل صراحةً بما تحمله داخلها من جثث ، ودون أن تدرك كمّ ما كان يُخاتل جثتى هذين الشَّابين من صبوات ، أو كم ما كانا ينسجانه ذهاباً وإياباً ، وعلى مسمع منَّا من مشاريع مأمولة ، وليست ظنيَّة ، إذ هما بالفعل كانا قد أنجزا أُولى خطواتهما فيما يُسمَّى عندنا بترجيح كافّة . لكن الدَّاء العقام الذى كان يُطوِّح بالسيارات ، إلى منحدرات هرمة ، تعاظم فعله على طريق بورسعيد دمياط ، ولم يستطع أى طرف تفادى صدامه المروِّع .ثم هل تنسى عائلة فخرى ، مصرع طبيبها الشَّاب غرقاً على شاطىء الجميل ؟! أم ينسى أهالى حادث الميكروباص شبابهم الذين ودَّعوهم عشية أمس ولم يبق لهم غير إنزال اللعنات بالسَّائق الذى كان حينها شارباً للبنجو ؟وغيرهم الكثير الكثير ممَّن تعصف بهم الأحزان ، ونكأت لها عندهم موطِىء قابض ومؤلم . ومع ذلك مازالوا يسيِّرون حياتهم ببعض المجازات ، وببعضٍ ممَّا يعتمل داخلهم من صبوة لا تتحاجز عند شىء ، بل وتسهب فى بغيتها .مازلنا نقول : من هنا نرى أنَّ القطيرات القزحية التى تلتحف بهبوها ، تتساقط فوق أسطح البيوت ، وفى أضواء المراسى ، وبالكاد بوسعنا أن نتحسَّس ما تشكِّله هذه الزَّخَّات من أجواء موصولة بحيوات تتخلَّق كأنها البدء . حيث أريج من فوعات الطُّحلب والماء مشفوعة بكينونة لا تُسمَّى. وحيث الدُّكنة المقوسة على الامتـداد ، عند التقاء الحافتين تُبدِّد كليةً شبهة أن يكون بعدها شىء . وكذلك تيارات الهواء التى تلفح الوجوه المعصوبة بسخاء الطُّرح ، وببعض الكوفيَّات التى تتهدَّل على الصَّدر ، مازالت دوماً وبعفوية كامنة ، وبغير ذى قصد ، تلقى على عيون أُناسنا ظلالاً من لمعة بارقة ، وتصبغ أجواءنا بدفقٍ حىّ .انظروا : هل هذه هى نفسها نظرة الحاج كامل أمس ، وطول اليومين الفائتين ، بُعيد فضيحة السِّت عقيله له فى محل عمله . وهل هذا هو نفسه إيقاع خطوات الأستاذ وافى عقب رميه بيمين الطَّلاق على زوجته ، وطرده لها فى عز الليل .إنَّ المناخات التى تكسبها المستجدات صيرورة مبهمة، ستبقى دائماً مكنوزة بنكهة الإيحاء . ويكفى أن توجِّه منعطفات الدَّواخل وشحناتها ، إلى مسارب يكون لها فيها انفساح ، ومن ثمَّ تحوُّل نوعى .فكيف تتصوَّرون مثلاً حالة جيهان ، وهى تتلقَّى شبهة قتل أبيها، فى ذات الوقت الذى لم تكن قد استوعبت فيه بعد وفاته ؟! هل نفسها حالتها الآن ، وهى تستند برأسها على كتف أخيها أحمد فى الكرسى الخلفى لعربة خالها ؟ثم ، وكذا ما الذى يمكن أن يُثار الآن ، أو يُطلق داخل نفس عائشة ، وهى تخطو خطواتها باتجاه عمارة إمام ، حيث جيشان العاطفة ، لم تُرقئه رؤية منذ عدة أعوام ؟!وحسبما نخال ، إنَّ ممدوح العربانى ، فى تطلُّعه الذى يبدو ضرورياً إلى اقتناص كيسين دم ، من الرَّصيد الذى كونه له الأصدقاء لزوم مرض أمه ، مازال يُخامره – جرَّاء الدَّفقات التى تزدهى - نوعاً من أمل فى حياة قابلة لأن تُعاش .إذن إلى من تُعزى كل هذه الإحباطات ، ومن ثمَّ النُّكوص ؟ أتُناجزنا أيَّامنا بضربة عنق ونحن ، أقصد وأنتم مازلتم هيَّابي قادم ؟ذلك أجدى أن تُجلَّى عن عمد سرائركم، وتُستبطن فى المحك ناصعةً .أَعائذون أنتم بحركات الافضاء ، وقناعات لا يمكن منازعتها قيد أنمله ؟! فإذا أمل تتسرَّب من بين يديها السَّنوات ، ودون طاهر لم يقنعها أحدٌ بأهليَّته . وإذا بصديقتها الصَّدوق ماجدة تكتشف فجأة ، أنَّها ما كانت لترفض الذين جاءوها طالبين ، لولا تعلُّقها بنفس مَنْ تتعلَّق به أمل .فعلى أىِّ نحوٍ تُثتحثّ هذه اللواعج من مكامنها ، ويُهيَّأ لبعضِ بمشاعر غير مستنكرة ، بأنَّهم يُشايعون ، بل ويتماهون قدر ما تأخذهم الانخطافة مع جوهر غائر فى كنههم .ثانيةً إنَّها مجازات الكائن ، وتوهماته الَّتى يحيا بحجَّة دفعها . حيث الأجدر ، طبعاً فى تراتبيّة رؤية إبراهيم المصرى ، وسلَّم أولويَّاته النَّظر إلى عمليتىّ أجاكس ، وسفنكس ، من هذا الوقوف الحذر الذى لا طائل منه أمام تصريحات شلوموين-عامى ، وإفريم سنيَّة .وكذا من قانون داماتو ، وجاكسون فانيك ونظرية الاحتواء المزدوج ، حتَّى اتِّفاق الخط الأحمر ، والطَّبعة الأخيرة لمشروع أيزنهاور ، تُطيل الحديث يا إبراهيم على مقدِّمة مدخلنا الحديدىّ مع إسحاق اسكندر ، ثمَّ لاتجد غضاضة فى أن لا تسأله عن أخته وطلاقها من المدعو موريس توما ، ومحاولته المروّعة لتشويه وجهها بماء النَّار ، بل وتزداد غلوَّاً فتختمها بالأبيات التى وُجِدت مكتوبة على حيطان الجامعة العبريَّة : فليذهب السّفارديم إلى أسبانيا ، والاشكناز إلى اوروبا ، والعرب إلى الصَّحراء ، ولترجع البلد إلى الله ، فقد منحنا الكثير من المتاعب عندما وعد بها الجميع .لكم إطلالة المسرَّة أيُّها البشر ، وقليلٌ من شجن .ولنا قانون الطَّفو، وشىءٌ من شكيمة الحطّ، ورهافة الاجتياز. ثمَّ كفى بها من محكَّات توالى كرَّها ، وتموضع كلاً فى خانته . عن الزَّهرة الخاملة ، لا عن المرافىء المفضية إلى المغامرة نحكى*.لم يعد ثمَّة من أرض لهبوط الحوائم الشَّاردة .فقط الأُخيولات قرائن كلَّ ذى زفرة .وحبَّذا لو تيسَّرَ من يغتبط للعماء الذى بلا مرسى .

الجمعة، 9 مايو 2008

( شىءٌ ما يُحاكُ فى صدرى )

أرى نفسى مُتَّجهاً بمفردى نحو فساحة واسعة ، أرضيَّتها من بلاط رخامى مائل إلى البياض ، فيما عدا بعض الرُّقوش الدَّقيقة المُزهرة الألوان ، قُذف فى روعى أنَّنى فى حديقة عمِّى المطلَّة على شارع عبد السَّلام عارف، رغم أنه لا يظهر من هذا المكان ، غير الفساحة الشَّاسعة واتِّجاه البناء . أناسٌ بثياب سوداء ، هناك على أقاصىالتُّخوم يبدأون فى الظُّهور تباعاً . صامتون لا تصدر منهم نأمة . واقفون كطيف لا يحطُّون على الأرض بالرَّغم من اقترابهم الشَّديد منها .
خشيت من جوِّ المكان ، وفكَّرت فى التَّراجع نأياً بنفسى . وكما ينبغى لمأزوم يودُّ الهرب التفت محاولاً السَّير باتِّجاه البوَّابة التى أتيت منها ، فلم أستطع . أشعر لقلبى وجيباً شديداً ، ثم ما إن أقنع نفسى بأنّ هذا الذى يحدث لى يحدث نهاراً ، حتَّى أُفاجأ بأن الظَّلام حالك لا بياض فيه ، وأن ذوى الملابس السَّوداء ، أولئك المجلَّلون بصمتهم تُضيئهم قناديل معلَّقة بأياديهم ، فيشخصون كهياكل عظميَّة بلا لحم . أصرخ بما تبقَّى لى من تماسك فلا يخرج لصراخى صوت .
واحدٌ له مظهر جدِّى المتوفِّى بلحية بيضاء طويلة يقترب منِّى ببطء . عيناه تجحظ بمقتٍ شديد لى . يلتفت بوجهِه ناحية البناء ، ويعطينى جانبه .فجأة يُرفع أمامه قبر بشاهده لم يكن موجوداً . صوت نانا الذى يبدو أنَّه ليس غريباً علىّ ، ينادينى من جهة ، لا أستطيعتحديدها . هناك جوٍ ما من فجيعة لا أستطيع لمس مظاهره ، لكنَّنى أشعر به داخلى .
الآن ماعدت فى مكانى كما كنت . أنا مقعىٌّ فى جوف قبر مترب تملأه روائح عفنة عتيقة ، آكل بنهمٍ من لحم امرأة متوفَّاة قريباً. أعلم أنَّها والدة زوج عمَّتى . لكن فيما يخصُّنى لا أشعر بأى تقزُّز ، وأستغرب منِّى ذلك .
بإصرار يُزيح الجدّ فوقى اللوح الرُّخامى ليغلق الكوَّة الوحيدة للقبر من أعلى . ولأوَّل مرَّة تختلط علىَّ ملامح وجهه بملامح وجه أبى . وكمن هو قانع بما يحدث له لا أحاول التَّشبُّث بالكوَّة للاندفاع قافزاً . خشيتى من حُلكة الظَّلام المُحدق ، وضيق القبر ، لا تجعلنى أدع ما أنا مُقبل عليه بنهم . كل ما هنالك أنَّنى أرى نفسى بعين أخرى ، وكأنَّما استكنت لشىءٍ لا مفرّ منه كان لا بدّ أن يحدث .
هذه العين التى تراقب المشهد هى التى يُداخلها فزعٌ مُروِّع . أمَّا أنا فأظنُّنى مُفرَّغ تماماً من أى وعى يُشعرنى بحالتى التى استحلت إليها . ودون أن يكون هناك ودق مطر ، أو حتَّى غيمة واحدة بالسَّماء ، أسمع هزيماً يهزُّ اللوح الرُّخامى . وإذا بالجدّ يضع رأسه بين اللوح والحافة، ثم يدفعه بقوَّة فيُسمع صوت اصطكاك له خفيف ، ويسقط رأسه على مقربة بجانبى دون أن أعيرها اهتماماً. فهل ظللت على هذا الحال ، حتَّى بوغت بجسدى وقد غطَّاه الحصى ، وفمى وقد اكتظَّ بكمٍّ هائل من تراب مُندَّى بصنان له رائحة البول . فيما الفراغ حولى ، لا يكفى لزفرة هواء واحدة أطلقها ، جرَّاء هذه الخفافيش التى راحت بسرعة مخيفة تصطفُّ حولى بعضها فى إثر بعض ، وهى مُدلاَّة من أرجلها بخيوطٍ غير مرئيَّة .

الغريب أنَّه يكاد يكون مرآى لها مألوفاً بالدَّرجة التى أفزعتنى .

من صفحة 309 حتى صفحة 312 من النَّصّ الروائى " حى شرق " .

Facebook Badge


Jobsmag.inIndian Education BlogThingsGuide