أولاً :
ثانياً :
الميتافيزيقا
استبدَّ
بالوعى البشرى نزوعٌ مضن على مدى تاريخه الحافل بالبحث عن رؤيةٍ ما تُكفِّل له
درجةً من الثُّبوتية . أو الأمان المعرفى الذى يرتجع إليه كلما قابلته مخاتلات
الواقع ، وتمويهاته التى يأتى بها فى كلِّ
مرَّةٍ زاعقة ، بمجرَّد أن يسترسل فى مضيِّه المتواصل . فمن الجواهر الثَّابتة فى
الوجود المسمَّاة بالأشكال لدى أرسطو ، وبالأفكار المغلقة ذات الوجود الميتافيزيقى
المنفصل عن العالم المحسوس عند أفلاطون ، وحتَّى الحقائق الرَّوحيَّة الخالدة فى
الفلسفة المثاليَّة الألمانيَّة ، وما أعقبها من مطلقات تتخذ أشكالاً مضمرة فى
أبنية الوعى ما قبل الحداثى ، ظل حراك الجهاز المعرفى الانسانى يبتحث عن قوانين ما
ثابتة ، أو قل قادرة على أن تكون له مُرتكزاً لإحاكة منظومة تكشف له ما يظنّه
كامناً فى العالم ، دون أن يدرك أن هذه
المنظومة ، ماهى إلاَّ أحد نواتج وعيه هو
، وليس لها أىُّ صلة بالعالم .
فالكيفيَّة التى يُرمِّزُ بها الوعى من خلال اللغة ، مُعطيات العالم ،
ويُبديها فى نسيجٍ مُتماسك تختلف عدسته باختلاف الظَّرف الزمانى والسّياق
الثَّقافى ، لا تنتمى أبداً له بقدر ما تنتمى لهذه العين التى اختارت ، وصنّفت ،
وشذَّبت ، وفنَّدت ، وصنعت علائق شبكاتها وفقاً لما وصل إليه جهازها التَّصوُّرى
من تراكم خبراتى ، ومعجم لمحكَّات القراءة .
أى أنَّ ما يخلعه الوعى على الأشياء ،
ليس أبداً فى الأشياء ذواتها بقدر ما هو فى جهازه التَّصوُّرى الذى يُدركها
به . فالأغلوطة المعيارية الكبرى، أن الوعى البشرى ، وإزاء ماانفكَّ يُغلِّس خلف
مساربه عن حقيقة ما ثاوية يتصوَّر أنَّها
فى قلب أىِّ تمظهُر له حضوره الفاعل ،
حتَّى ولو كان فى فعله هذا إنَّما يعمل بقصد فضح مافى نسيجها المزعوم من سرابٍ لا
أصل له ، فقد سقط سقطةً فاحشة لا تدانيها سقطةٌ أخرى . بل ولم يستطع منها فكاكاً
حتَّى الآن ، وهى اعتقاده الثُّبوتى أن هذا الجهاز التَّصوُّرى المسمَّى بالوعى ،
هو المحكّ الرَّئيسى والمُرتكز الذى لا مُرتكز بعده ، لانطاق هذا الخطاب الكونى
الكبير ، ومقاربة علائقه ذات الامكانيَّات العديدة لأن تُأوَّل . مُفترضاً أولاً حُضوراً دكتاتوريَّاً لهذا الوعى الذى لا يتصوَّر
معه ، حضور أى وعى آخر غيره ، قد يُعوَّل عليه فى انتاج منظوراً مُخالفاً لما يراه
. وغافلاً ثانيةً ، ليس فقط عن فرضيَّة كونه محض آليَّة لهذا الكائن المنعوت
بالإنسان ، مع ما فى ذلك من إشهار لحقِّ الكائنات
الأخرى فى التَّصوُّر ، وإنَّما عن جميع تلك الاحتمالات ، والتى باتت تتأكَّد
يوماً بعد يوم ، فى وجود أكوان أخرى عديدة غير هذا الذى نحيا فيه . وما يستتبعه
ذلك من إمكانيَّة وجود موجودات منَّا أشد اختلافاً ، ثمَّ الأهم من هذا ومن ذاك ،
وبما لايُقاس عظيم أثره بمراحل ، غافلاً عن الفرضيَّة الأمّ ، والتى لا يمكن أبداً
أن تُنفَى ، أو يُداخلها دحض . وهى ، ماذا لو كان هناك ثمَّة وجودٍ ما لا تُوصِّفه
قوانين المادَّة المُتحرِّكة (الزَّمان المكان ) كما أصطلحها تجوُّزاً . بل يحضر
وفق ما لا يستطيع جهازنا التَّصوُّرى إدراكه . أى ما لاتحتمل الاستعارات الماديَّة
المحكومة بها آليَّات وعينا ، ومخطَّطات خرائطه ، أن تقرأه .أوَ كان فى هذه الحالة سيُسمِّى الأشياء
بنفس تلك الاسماء التى نُسميها بها نحن ؟ أو سيستنطقها بتلك الكيفيَّة التى ترتهن
لدينا بشرط الإمكان ؟ أم سيكون له آليَّاته التى هى من جنس عالمه ؟
*****
لم يكن وصف ألفرد جارى ( 1873– 1907م) لما سمَّاه بالباتافيزيقيَّة ، إلاَّ
إسماً آخر لهذه الجواهر الثّابتة ، والقوانين الرَّاسخة التى طالما عكف الوعى
البشرى برموزه السَّامقة على الكدح وراء اكتشافها ، وسبر الأغوار التى يُظَنّ فيها
تجلِّيها ، بأنكالٍ لا يجد منها تخارجاً أو عتق .
وإذا كان فى هذا يبدو مختلفاً عن سابقيه ، من حيث محاولة البحث عنها فى منطقة
العوارض والاستثناءات . إلاَّ أنَّه فى الحقيقة لم يُغادر عتبتهم مُطلقاً .
يقول جارى فى تعريفه للباتافيزيقا ، " أنَّها علم الحلول المُتصوَّرة
أو الخياليَّة ، ومن خلالها نصل إلى مستوى آخر من مستويات الوجود ، ونُحقِّق وعياً
لا يُمكن تحقيقه وبها نصل إلى القوانين
التى تحكم العوارض والاستثناءات فى الكون ، بحيث نكتشف العالم الذى يُكمِّل عالمنا
التَّقليدى " .
أى أنَّه هنا مازال أسيراً لثنائيَّة ( الذَّات – العالم ) . وأنَّ ثمَّة
قوانين خارج الذَّات يُمكن استنطاقها ، تحكم العوارض المُتخاصرة حول كُنهٍ ما
يُراد اكتشافه . حيث وفقاً لهذا التَّصوُّر هناك أشياء خارج الوعى لها
أُجروميَّة ما ، ووضعيَّة تتمفصل عن
الآليَّات التى تُدرك بها من قبل عدسة الوعى . وبالتَّالى ما علينا إلاَّ استنطاق
هذه الفضاءات التى تقبع هناك على الهامش ، والمضى وراء كلّ ما هو عارض فيها
ومُشوَّش ، وغير مُسبَّب ، حتَّى يُهيَّأ لنا أن نصنع حلولنا الوهمية ، ونكتشف
العالم الذى يُكمِّل عالمنا التَّقليدى . وذلك تبعاً لما أوردته دورية أفرجرين
العدد 13 فى تعريف الباتافيزيقيَّة " علم الخاص ، أو علم القوانين التى تحكم
الاستثناءات لا القاعدة " .
وقطعاً هذا هو بالضَّبط ، وفى القلب ممَّا باتت ترفضه كُليَّةً اللحظة
المعرفيَّة الرَّاهنة . بل وتعمد إلى تقويضه ، من خلال أنظمتها التَّصوريَّة
المُتداولة، وأقانيم منظورها المعرفى الذى راح يُؤكِّد أنَّ الذَّات ما هى إلاَّ
كائنٌ مُنقرضٌ يحيا داخل عالم اللغة
المُخاتل والمتملِّص دوماً ، والذى لا يقرّ أبداً على حال ، مأخوذاً فى ذلك بدوالها التى ينسخ
بعضها بعضاً ، ومُغيَّباً بمجازاتها التى ماينى يستولدها من رحم جهاز بدنها
السيمانتيكى المكتنز بجراثيم الختل والزَّيف. وبالشَّكل الذى لم يعد يتطلَّب منه
كبير جهد ، كى يُمكنه أن يُثبت ، أن الوعى بالعالم هو ما يسكن أديم اللغة وليس بتاتاً مُعطيات العالم ذاته .
فباتافيزيقا ألفرد جارى ، ورغم كونها لا تتموضع فى موقع أنطولوجى يغترف من
جراثيم وباء الحقائق الجوهريَّة التى تلهث
وراء الكينونات ، سواء كان دازاين هوسرل الثُّبوتى ، أو دازاين هيدجر الديناميكى ، أو التَّطابق ، والكليات ،
والأصل، والتَّعيُّن الماهوى للهويَّة ، ومبدأ الوحدة ، ، فهى لا تكفّ عن تذكيرنا
بمحاولاتها الدَّؤوبة لاستشفاف فضاء قائماً على نحوٍ مُعيَّن ، ومجهول خارج اللغة
، أو قبل اللغة . وأن هذا الفضاء يفقه ذاته كاستثناء عرضى ، وينبذ فى تعمُّد مصرّ ، أىَّ انضواء تحت تعميمٍ ما ، تتخلَّق
منه تلك الآفة التى يراها حسب منظوره تفترض تماسُكاً يقع بشكل سببى منطقى خلف
الظَّواهر .
وهنا ، وبالتحديد يُمكن القول ، أنَّ هذا التَّماسُك المزعوم ، هو ما كان
يعمل جارى ضد حضوره فى فضاء الوعى .
فرغم كونه قد بدأ حياته شاعراً رمزيَّاً ، مُتأثِّراً بفلسفة كانط ، حيث
هذا العالم الرُّوحى ذى الحقائق المُتعالية ، والذى يدَّعى أن الظَّواهر العارضة
تكتسب معناها الكُلِّى الخالد من إمائها المُحتَّم إليه . إلاَّ أنَّه قد تحوَّل
تحولاً كبيراً إلى وجهة أخرى بعيدة كلّ البعد عمَّا كانه فى السَّابق فصار أقرب ، وبعظيم درجات إلى كتاب العبث منه
إلى الرَّمزيِّين .
مرَّة أخرى ، وبقناع لاينفكّ يتَّخذ صيغته من المقابل الصّورى المُضاد
للكينونات ذات القوانين المُمنْطَقة تسبيبيَّاً ، يصنع جارى عالمه المُتخيَّل
المُشتَّت والقائم على كلِّ ما هو عارض وغير جوهرى ، والذى هو كما يقول "
يُكمِّل عالمنا التَّقليدى " ، دون أن يفطن أنَّه فى كلتا الحالتين ، إنَّما
يقع تحت طائلة أغلوطة هائلة ، تتوهَّم خطلاً
أو عوزاً ، فى الوعى البشرى أو قل جهازه التَّصوُّرى القدرة على أن
يُعَمَّد كمرتَكزٍ تقييمى ، أومختبرٍ لمعرفة العالم والكشف عن حقائقه .
أى بتعبير آخر ، إنَّ الظَّن بأنَّ ثمَّةَ كُنهٍ ما يُمكن المضى خلفه ،
كاشتغالات مُدنِّق أثر ، ومن ثمَّ الوصول
إليه عن طريق الحفر ، والتَّغوير ، وإنطاق خطابه الكونى ، هذا المسعى المُلغَّم
بجراثيم المجازات الفاحشة ، هو بالضَّبط ما ترفضه كُليَّةً الباتافيزيقا البعديَّة
وتعمل ضدَّه .
ففيما يخصُّها : لا يكفى أبداً أن تُقوَّض مثل هذه المرائى الغُفل التى
تنتسب إلى وعىٍ مازال يحطّ أُولى خطواته فى المُمارسة . بمثل مالا يكفى ، وبنفس
الدَّرجة أن تُجزّ هذه الأفاعى الرَّاتعة غصباً فى أدغال ما يوصمه جاك دريدا بميتافيزيقا
الحضور، أو ما يأخذ أقنعته ممَّا يُلقّبه ميشيل فوكو بالفهم الماهوى للأشياء .
أقول أجل لا يكفى كلّ هذا ، كيما يُستطاع الإعلان صراحةً ، وبإشهار يمتح
مُسوِّغه من نقض ما سبق ، عن تدشين هاته المنطقة من الوعى التى تصرُّ على توصيف
نفسها بالممارسة ، دون أىِّ مُسمَّىً آخر .
إذ وبحسبان كونها مرحلةً من الوعى
لا تتماهى إلاَّ مع كلِّ ما هو وقتىٌّ ، وزائل ، وذو صيرورة دائمة ، يتوجَّب عليها
أن تنتبه إلى أنَّه ، وفى اللحظة التى ستعمل فيها على إنشاء إحدى أجهزتها
التَّصوريَّة هذه للتَّعاطى مع "
خطابات _ تصوُّرات"، تحسبها قابلة لأن تحضر وفق إحداثيَّات تعطى لها كونها
المُتعيِّن ، سيجتاحها وفى ذات الأيْن ،
يقينٌ دامغ لا مجال للشَّكّ فيه ، أنَّ ما تُجاهد كيما تنشئه على هذا النَّحو ،
وبهذه الكيفيَّة ، لا يُمكن أن يأخذ مُسوِّغه ، وشروطه فى الإمكان ، إلاَّ وفقط من
كونه مُحايثاً تماماً ، وصِنْواً للمؤقَّتيَّة . بل ويسكن فى محرقها المُتفجِّر
تحوُّراً ، والذى لا يتحاجز عند حدّ
. وهذا ما لابدّ وأن يتحقَّق حدوثه ، يا
إمَّا بإحداث تغيُّرات من شأنها أن تمنح آليَّات هذا الجهاز القدرة على التَّعامل
وفق إمكانيَّات أنجع على مستوى إنتاج مسارات للسَّير ، وذلك باعتبار كما أُسلِفَ ،
أنَّ الوعى ليس عيناً للبحث ، بل أفقاً للمارسة . أو يا إما بتخليق جهازاً
مُغايراً تماماً له أليَّاته الخاصَّة ، وأجروميَّته فى موضعة التَّصوُّرات ،
والتَّحاور فيما بينها .
*****
( باتافيزيقا الطناحى )
الباتافيزيقا البعديَّة ليست أُدلوجة ، بل أفق يخلق أجهزته التَّصوُّريَّة
، ويُعدِّدُها.
فى
لحظة ما سيقترح الظَّرف الماضى فى أفق توتُّره ، نحو مفاعيل جديدة تكتنز بفيض
التَّأويلات ، إسماً آخر للحقيقة . حيث وبمثل ما تَقوَّض التَّاريخ الحداثى من حيث
كونه أفقاً ، لنزع الحجب المعتمة عن جواهر لها من الشَّأن والهويَّات ذات الحضور
الذى لا يُداخله شكّ ،أن جعلت من الذَّات مركزاً تنظر به لنفسها كيقين مُطلق ،
وعلَّةً لإضفاء المعنى على كلِّ شىء ، سيتقوَّض أيضاً ، وبذات الطَّريقة التَّاريخ
ما بعد الحداثى ، هذا الذى ماانفكَّ حتَّى الآن يعمل على إماطة اللثام عن زيف كلِّ
هذه السَّرديَّات التُّوتاليتاريَّة، ومرجعيَّاتها الموغلة فى سرابها المُقنَّع
بميتافيزيقا الحضور .
وحينئذ ، وبعد أن يكون هذا الفعل قد أخذ فساحتَه من الوقت ، سيبزغ فى الأفق
فضاء جديدٌ ، يستطيع أن يُخبرنا كيف تكون عليه الآليَّات التى من شأنها أن
تُمكِّنَنا من بناء أجهزتنا التَّصوريَّة ، وفق ما نريد ، وبالصَّيغة التى تجعلنا
نُنتج نحنُ الحقائق ، تبعاً لشروط إمكانيَّة مُلحَّة تُريد أن تسدَّ عندنا عَوَز ،
وأبداً ليس أن نبحث هكذا عنها كما يحدث بلا جدوىً أو طائل .
أعنى أنَّه يُمكن القول ، وعلى سبيل الوجازة
المطلوبة ، أنَّه إذا ما كانت الحداثة هى تاريخ البحث عن الحقائق ، وأنَّ تاريخ ما
بعد الحداثة ، هو تاريخ كشف زيف هذه الحقائق ، فإنَّ التَّاريخ القادم ، والذى هو
تاريخ إنتاج الحقائق ، تاريخ مابعد الميتافيزيقا ، من حيث هى خطاب ماهيَّة الوجود
والحقيقة ، وليس فرعاً من فروع المعرفة ، ومبحث فى الوجود ، سوف يستحيل ، وبُعيد
مروره من نفق هذه اللحظة الأبستمولوجيَّة
الرَّاهنة ذات القعقعة العظيمة فى التَّقوُّض ، إلى فضاء مُهيَّأ لممارسة مختلف
الاستراتيجيَّات ، التى قد تُتيح له أن ينتج طرائق جديدة فى استيلاد المفاهيم .
وهذا على اعتبار أنَّ الوعى مُمارسة ، وإجراءات إمبريقيَّة فى تصنيع العدَّة
المفهوميَّة ، تلك التى هى حتماً ما تتغاير بتغاير الأجهزة المُنتجة للتَّصوُّر .
وأبداً ليس هو مُطلقاً ذاك التَّأمُّل الذى مافتىء يبزل ، وعلى مدى عصورٍ
طويلة منقوع جهده ؛ كى يكشف هذا المعنى
المكنوز بالكُنْه الثَّابت الأصيل ، أو حتَّى يفضح بهتان هذا الزَّيف المكنوز فى
لواحم صلب تلك المعانى العصيَّة الخالدة .
بيد أنَّه يتوجَّب علينا حين التَّعامل مع مفهوم الأجهزة التَّصوريَّة ، أن
نزيحه تماماً بعيداً عن كلِّ محمول دلالى قد يُسرِّبه إلينا مفهوم الأنساق ذات
الفكر الشمولى الحاكم بشكل مُسبق لآليَّة العنْى ، مع ما يكرِّسه هذا من حمولة
أيديولوجية .
*****
الإصدار الثامن
وطء أقدام .
ثم البتَّة لا شىء سوى الصَّدى!
نصّ روائى .
دار الدار للنشر .
القاهرة 2014م .
257 صفحة .
تمت كتابته فى 20 -1-2012م .
محمد الطناحى .
بورسعيد .
*****