إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 6 أكتوبر 2014

الباتافيزيقا البَعْديَّة ( الوعى المُغاير )

أولاً :



ثانياً : 


الميتافيزيقا 

    استبدَّ بالوعى البشرى نزوعٌ مضن على مدى تاريخه الحافل بالبحث عن رؤيةٍ ما تُكفِّل له درجةً من الثُّبوتية . أو الأمان المعرفى الذى يرتجع إليه كلما قابلته مخاتلات الواقع ، وتمويهاته التى يأتى بها  فى كلِّ مرَّةٍ زاعقة ، بمجرَّد أن يسترسل فى مضيِّه المتواصل . فمن الجواهر الثَّابتة فى الوجود المسمَّاة بالأشكال لدى أرسطو ، وبالأفكار المغلقة ذات الوجود الميتافيزيقى المنفصل عن العالم المحسوس عند أفلاطون ، وحتَّى الحقائق الرَّوحيَّة الخالدة فى الفلسفة المثاليَّة الألمانيَّة ، وما أعقبها من مطلقات تتخذ أشكالاً مضمرة فى أبنية الوعى ما قبل الحداثى ، ظل حراك الجهاز المعرفى الانسانى يبتحث عن قوانين ما ثابتة ، أو قل قادرة على أن تكون له مُرتكزاً لإحاكة منظومة تكشف له ما يظنّه كامناً فى   العالم ، دون أن يدرك أن هذه المنظومة ، ماهى إلاَّ أحد نواتج  وعيه هو ، وليس لها أىُّ صلة بالعالم .
    فالكيفيَّة التى يُرمِّزُ بها الوعى من خلال اللغة ، مُعطيات العالم ، ويُبديها فى نسيجٍ مُتماسك تختلف عدسته باختلاف الظَّرف الزمانى والسّياق الثَّقافى ، لا تنتمى أبداً له بقدر ما تنتمى لهذه العين التى اختارت ، وصنّفت ، وشذَّبت ، وفنَّدت ، وصنعت علائق شبكاتها وفقاً لما وصل إليه جهازها التَّصوُّرى من تراكم خبراتى ، ومعجم لمحكَّات القراءة .
    أى أنَّ ما يخلعه الوعى على الأشياء ،  ليس أبداً فى الأشياء ذواتها بقدر ما هو فى جهازه التَّصوُّرى الذى يُدركها به . فالأغلوطة المعيارية الكبرى، أن الوعى البشرى ، وإزاء ماانفكَّ يُغلِّس خلف مساربه عن حقيقة ما ثاوية يتصوَّر  أنَّها فى قلب أىِّ تمظهُر له حضوره  الفاعل ، حتَّى ولو كان فى فعله هذا إنَّما يعمل بقصد فضح مافى نسيجها المزعوم من سرابٍ لا أصل له ، فقد سقط سقطةً فاحشة لا تدانيها سقطةٌ أخرى . بل ولم يستطع منها فكاكاً حتَّى الآن ، وهى اعتقاده الثُّبوتى أن هذا الجهاز التَّصوُّرى المسمَّى بالوعى ، هو المحكّ الرَّئيسى والمُرتكز الذى لا مُرتكز بعده ، لانطاق هذا الخطاب الكونى الكبير ، ومقاربة علائقه ذات الامكانيَّات العديدة لأن تُأوَّل . مُفترضاً أولاً  حُضوراً دكتاتوريَّاً لهذا الوعى الذى لا يتصوَّر معه ، حضور أى وعى آخر غيره ، قد يُعوَّل عليه فى انتاج منظوراً مُخالفاً لما يراه . وغافلاً ثانيةً ، ليس فقط عن فرضيَّة كونه محض آليَّة لهذا الكائن المنعوت بالإنسان ، مع  ما فى ذلك من إشهار لحقِّ الكائنات الأخرى فى التَّصوُّر ، وإنَّما عن جميع تلك الاحتمالات ، والتى باتت تتأكَّد يوماً بعد يوم ، فى وجود أكوان أخرى عديدة غير هذا الذى نحيا فيه . وما يستتبعه ذلك من إمكانيَّة وجود موجودات منَّا أشد اختلافاً ، ثمَّ الأهم من هذا ومن  ذاك ، وبما لايُقاس عظيم أثره بمراحل ، غافلاً عن الفرضيَّة الأمّ ، والتى لا يمكن أبداً أن تُنفَى ، أو يُداخلها دحض . وهى ، ماذا لو كان هناك ثمَّة وجودٍ ما لا تُوصِّفه قوانين المادَّة المُتحرِّكة (الزَّمان المكان ) كما أصطلحها تجوُّزاً . بل يحضر وفق ما لا يستطيع جهازنا التَّصوُّرى إدراكه . أى ما لاتحتمل الاستعارات الماديَّة المحكومة بها آليَّات وعينا ، ومخطَّطات خرائطه ، أن  تقرأه .أوَ كان فى هذه الحالة سيُسمِّى الأشياء بنفس تلك الاسماء التى نُسميها بها نحن ؟ أو سيستنطقها بتلك الكيفيَّة التى ترتهن لدينا بشرط الإمكان ؟ أم سيكون له آليَّاته التى هى من جنس عالمه ؟
*****
   لم يكن وصف ألفرد جارى ( 1873– 1907م) لما سمَّاه بالباتافيزيقيَّة ، إلاَّ إسماً آخر لهذه الجواهر الثّابتة ، والقوانين الرَّاسخة التى طالما عكف الوعى البشرى برموزه السَّامقة على الكدح وراء اكتشافها ، وسبر الأغوار التى يُظَنّ فيها تجلِّيها ، بأنكالٍ لا يجد منها تخارجاً أو عتق .
    وإذا كان فى هذا يبدو مختلفاً عن سابقيه ، من حيث محاولة البحث عنها فى منطقة العوارض والاستثناءات . إلاَّ أنَّه فى الحقيقة لم يُغادر عتبتهم مُطلقاً .
    يقول جارى فى تعريفه للباتافيزيقا ، " أنَّها علم الحلول المُتصوَّرة أو الخياليَّة ، ومن خلالها نصل إلى مستوى آخر من مستويات الوجود ، ونُحقِّق وعياً لا يُمكن تحقيقه  وبها نصل إلى القوانين التى تحكم العوارض والاستثناءات فى الكون ، بحيث نكتشف العالم الذى يُكمِّل عالمنا التَّقليدى " .
    أى أنَّه هنا مازال أسيراً لثنائيَّة ( الذَّات – العالم ) . وأنَّ ثمَّة قوانين خارج الذَّات يُمكن استنطاقها ، تحكم العوارض المُتخاصرة حول كُنهٍ ما يُراد اكتشافه . حيث وفقاً لهذا التَّصوُّر هناك أشياء خارج الوعى لها أُجروميَّة   ما ، ووضعيَّة تتمفصل عن الآليَّات التى تُدرك بها من قبل عدسة الوعى . وبالتَّالى ما علينا إلاَّ استنطاق هذه الفضاءات التى تقبع هناك على الهامش ، والمضى وراء كلّ ما هو عارض فيها ومُشوَّش ، وغير مُسبَّب ، حتَّى يُهيَّأ لنا أن نصنع حلولنا الوهمية ، ونكتشف العالم الذى يُكمِّل عالمنا التَّقليدى . وذلك تبعاً لما أوردته دورية أفرجرين العدد 13 فى تعريف الباتافيزيقيَّة " علم الخاص ، أو علم القوانين التى تحكم الاستثناءات لا القاعدة " .
    وقطعاً هذا هو بالضَّبط ، وفى القلب ممَّا باتت ترفضه كُليَّةً اللحظة المعرفيَّة الرَّاهنة . بل وتعمد إلى  تقويضه ، من خلال أنظمتها التَّصوريَّة المُتداولة، وأقانيم منظورها المعرفى الذى راح يُؤكِّد أنَّ الذَّات ما هى إلاَّ كائنٌ مُنقرضٌ يحيا داخل عالم   اللغة المُخاتل والمتملِّص دوماً ، والذى لا يقرّ أبداً على حال ، مأخوذاً فى ذلك بدوالها التى ينسخ بعضها بعضاً ، ومُغيَّباً بمجازاتها التى ماينى يستولدها من رحم جهاز بدنها السيمانتيكى المكتنز بجراثيم الختل والزَّيف. وبالشَّكل الذى لم يعد يتطلَّب منه كبير جهد ، كى يُمكنه أن يُثبت ، أن الوعى بالعالم هو ما يسكن أديم اللغة  وليس بتاتاً مُعطيات العالم ذاته .
    فباتافيزيقا ألفرد جارى ، ورغم كونها لا تتموضع فى موقع أنطولوجى يغترف من جراثيم وباء الحقائق الجوهريَّة  التى تلهث وراء الكينونات ، سواء كان دازاين هوسرل الثُّبوتى ، أو دازاين هيدجر   الديناميكى ، أو التَّطابق ، والكليات ، والأصل، والتَّعيُّن الماهوى للهويَّة ، ومبدأ الوحدة ، ، فهى لا تكفّ عن تذكيرنا بمحاولاتها الدَّؤوبة لاستشفاف فضاء قائماً على نحوٍ مُعيَّن ، ومجهول خارج اللغة ، أو قبل اللغة . وأن هذا الفضاء يفقه ذاته كاستثناء عرضى ، وينبذ فى تعمُّد  مصرّ ، أىَّ انضواء تحت تعميمٍ ما ، تتخلَّق منه تلك الآفة التى يراها حسب منظوره تفترض تماسُكاً يقع بشكل سببى منطقى خلف الظَّواهر .
    وهنا ، وبالتحديد يُمكن القول ، أنَّ هذا التَّماسُك المزعوم ، هو ما كان يعمل جارى ضد حضوره فى فضاء الوعى .
    فرغم كونه قد بدأ حياته شاعراً رمزيَّاً ، مُتأثِّراً بفلسفة كانط ، حيث هذا العالم الرُّوحى ذى الحقائق المُتعالية ، والذى يدَّعى أن الظَّواهر العارضة تكتسب معناها الكُلِّى الخالد من إمائها المُحتَّم إليه . إلاَّ أنَّه قد تحوَّل تحولاً كبيراً إلى وجهة أخرى بعيدة كلّ البعد عمَّا كانه فى السَّابق  فصار أقرب ، وبعظيم درجات إلى كتاب العبث منه إلى الرَّمزيِّين .
    مرَّة أخرى ، وبقناع لاينفكّ يتَّخذ صيغته من المقابل الصّورى المُضاد للكينونات ذات القوانين المُمنْطَقة تسبيبيَّاً ، يصنع جارى عالمه المُتخيَّل المُشتَّت والقائم على كلِّ ما هو عارض وغير جوهرى ، والذى هو كما يقول " يُكمِّل عالمنا التَّقليدى " ، دون أن يفطن أنَّه فى كلتا الحالتين ، إنَّما يقع تحت طائلة أغلوطة هائلة ، تتوهَّم خطلاً  أو عوزاً ، فى الوعى البشرى أو قل جهازه التَّصوُّرى القدرة على أن يُعَمَّد كمرتَكزٍ تقييمى ، أومختبرٍ لمعرفة العالم  والكشف عن حقائقه . 
    أى بتعبير آخر ، إنَّ الظَّن بأنَّ ثمَّةَ كُنهٍ ما يُمكن المضى خلفه ، كاشتغالات مُدنِّق  أثر ، ومن ثمَّ الوصول إليه عن طريق الحفر ، والتَّغوير ، وإنطاق خطابه الكونى ، هذا المسعى المُلغَّم بجراثيم المجازات الفاحشة ، هو بالضَّبط ما ترفضه كُليَّةً الباتافيزيقا البعديَّة وتعمل ضدَّه .
    ففيما يخصُّها : لا يكفى أبداً أن تُقوَّض مثل هذه المرائى الغُفل التى تنتسب إلى وعىٍ مازال يحطّ أُولى خطواته فى المُمارسة . بمثل مالا يكفى ، وبنفس الدَّرجة أن تُجزّ هذه الأفاعى الرَّاتعة غصباً فى أدغال ما يوصمه جاك دريدا بميتافيزيقا الحضور، أو ما يأخذ أقنعته ممَّا يُلقّبه ميشيل فوكو بالفهم الماهوى للأشياء .
    أقول أجل لا يكفى كلّ هذا ، كيما يُستطاع الإعلان صراحةً ، وبإشهار يمتح مُسوِّغه من نقض ما  سبق ، عن تدشين هاته المنطقة من الوعى التى تصرُّ على توصيف نفسها بالممارسة ، دون أىِّ مُسمَّىً  آخر .
    إذ وبحسبان  كونها مرحلةً من الوعى لا تتماهى إلاَّ مع كلِّ ما هو وقتىٌّ ، وزائل ، وذو صيرورة دائمة ، يتوجَّب عليها أن تنتبه إلى أنَّه ، وفى اللحظة التى ستعمل فيها على إنشاء إحدى أجهزتها التَّصوريَّة هذه للتَّعاطى  مع " خطابات _ تصوُّرات"، تحسبها قابلة لأن تحضر وفق إحداثيَّات تعطى لها كونها المُتعيِّن ، سيجتاحها  وفى ذات الأيْن ، يقينٌ دامغ لا مجال للشَّكّ فيه ، أنَّ ما تُجاهد كيما تنشئه على هذا النَّحو ، وبهذه الكيفيَّة ، لا يُمكن أن يأخذ مُسوِّغه ، وشروطه فى الإمكان ، إلاَّ وفقط من كونه مُحايثاً تماماً ، وصِنْواً للمؤقَّتيَّة . بل ويسكن فى محرقها المُتفجِّر تحوُّراً ، والذى لا يتحاجز  عند حدّ .   وهذا ما لابدّ وأن يتحقَّق حدوثه ، يا إمَّا بإحداث تغيُّرات من شأنها أن تمنح آليَّات هذا الجهاز القدرة على التَّعامل وفق إمكانيَّات أنجع على مستوى إنتاج مسارات للسَّير ، وذلك باعتبار كما أُسلِفَ ، أنَّ الوعى ليس عيناً للبحث ، بل أفقاً للمارسة . أو يا إما بتخليق جهازاً مُغايراً تماماً له أليَّاته الخاصَّة ، وأجروميَّته فى موضعة التَّصوُّرات ، والتَّحاور فيما بينها .



*****
( باتافيزيقا الطناحى )

الباتافيزيقا البعديَّة ليست أُدلوجة ، بل أفق يخلق أجهزته التَّصوُّريَّة ، ويُعدِّدُها.

    فى لحظة ما سيقترح الظَّرف الماضى فى أفق توتُّره ، نحو مفاعيل جديدة تكتنز بفيض التَّأويلات ، إسماً آخر للحقيقة . حيث وبمثل ما تَقوَّض التَّاريخ الحداثى من حيث كونه أفقاً ، لنزع الحجب المعتمة عن جواهر لها من الشَّأن والهويَّات ذات الحضور الذى لا يُداخله شكّ ،أن جعلت من الذَّات مركزاً تنظر به لنفسها كيقين مُطلق ، وعلَّةً لإضفاء المعنى على كلِّ شىء ، سيتقوَّض أيضاً ، وبذات الطَّريقة التَّاريخ ما بعد الحداثى ، هذا الذى ماانفكَّ حتَّى الآن يعمل على إماطة اللثام عن زيف كلِّ هذه السَّرديَّات التُّوتاليتاريَّة، ومرجعيَّاتها الموغلة فى سرابها المُقنَّع بميتافيزيقا الحضور .
    وحينئذ ، وبعد أن يكون هذا الفعل قد أخذ فساحتَه من الوقت ، سيبزغ فى الأفق فضاء جديدٌ ، يستطيع أن يُخبرنا كيف تكون عليه الآليَّات التى من شأنها أن تُمكِّنَنا من بناء أجهزتنا التَّصوريَّة ، وفق ما نريد ، وبالصَّيغة التى تجعلنا نُنتج نحنُ الحقائق ، تبعاً لشروط إمكانيَّة مُلحَّة تُريد أن تسدَّ عندنا عَوَز ، وأبداً ليس أن نبحث هكذا عنها كما يحدث بلا جدوىً أو طائل .
        أعنى أنَّه يُمكن القول ، وعلى سبيل الوجازة المطلوبة ، أنَّه إذا ما كانت الحداثة هى تاريخ البحث عن الحقائق ، وأنَّ تاريخ ما بعد الحداثة ، هو تاريخ كشف زيف هذه الحقائق ، فإنَّ التَّاريخ القادم ، والذى هو تاريخ إنتاج الحقائق ، تاريخ مابعد الميتافيزيقا ، من حيث هى خطاب ماهيَّة الوجود والحقيقة ، وليس فرعاً من فروع المعرفة ، ومبحث فى الوجود ، سوف يستحيل ، وبُعيد مروره من نفق هذه  اللحظة الأبستمولوجيَّة الرَّاهنة ذات القعقعة العظيمة فى التَّقوُّض ، إلى فضاء مُهيَّأ لممارسة مختلف الاستراتيجيَّات ، التى قد تُتيح له أن ينتج طرائق جديدة فى استيلاد المفاهيم . وهذا على اعتبار أنَّ الوعى مُمارسة ، وإجراءات إمبريقيَّة فى تصنيع العدَّة المفهوميَّة ، تلك التى هى حتماً ما تتغاير بتغاير الأجهزة المُنتجة للتَّصوُّر . وأبداً ليس هو مُطلقاً ذاك التَّأمُّل الذى مافتىء يبزل ، وعلى مدى عصورٍ طويلة  منقوع جهده ؛ كى يكشف هذا المعنى المكنوز بالكُنْه الثَّابت الأصيل ، أو حتَّى يفضح بهتان هذا الزَّيف المكنوز فى لواحم صلب تلك المعانى العصيَّة  الخالدة .
    بيد أنَّه يتوجَّب علينا حين التَّعامل مع مفهوم الأجهزة التَّصوريَّة ، أن نزيحه تماماً بعيداً عن كلِّ محمول دلالى قد يُسرِّبه إلينا مفهوم الأنساق ذات الفكر الشمولى الحاكم بشكل مُسبق لآليَّة العنْى ، مع ما يكرِّسه هذا من حمولة أيديولوجية .
*****
الإصدار الثامن
وطء أقدام .
ثم البتَّة لا شىء سوى الصَّدى!
نصّ روائى .
دار الدار للنشر .
القاهرة 2014م .
257 صفحة .
تمت كتابته فى 20 -1-2012م .
محمد الطناحى .
بورسعيد .
*****



. " حاشية على الباتافيزيقا البَعْديَّة " *. من نصّ آل الأفاويقية " وعمَّا يصفون ركزاً تغشَّى "

    توطئة

حيث أننى قد أنهيت هذا النَّص ، ومقدمته التنظيرية فى أواخر عام 97 م ، فخليق علىَّ التنويه ، بأننى حينما  كنت أُسجِّل فى هذه المقدمة المعنونة بـــ " حاشية على الباتافيزيقا البعديَّة " بعض الجوانب المتغامضة من منطقة الوعى الفنى تلك ، التى أظنها جديرة بالطَّرح ، لم أكن أطمح أبداً ولا أرغب ، ولا حتى أتصوَّر أن ثمَّة داعٍ ما  - وفق الذهنية الكهنوتية الميتافيزقية التى للأسف مازالت مستولية تماماً على معظم فضاء المخيلة العربية – لأن يمثِّل هذا الطَّرح فعل ترسيخى لإشاعة مفهوم بعينه ، يستوجب بالضَّرورة ، حسمه الاستبعادى لما عداه . والتَّموقع داخل إطار ما من التَّصوُّر يعتقد الثبوتية والإطلاقية . تلك الآفة التى انتفى عهدها - أو يجب - من الجهاز المعرفى المعاصر بمنظوماته المتداولة ، والتى تتوخَّى الموضوعية ، وتنبذ كثير من توهماته وأساطيره .
    فالطَّامة الكبرى ، أو قـل هى الخطيئة أن تُـلجئـنا الظَّرفية الأدبية يوماً ، لأن نتحصَّن بالترسيمات لما هو نموذج معيارى لدينا . وفق مواصفات مفهومية نمنحها كل امتيازات القيمة ، ونكسبها سلطة ما تتسيَّد بها فترة من وقت .
    فحسبما نخال ، ونؤكِّد ، ليس من الفطنة فى شىء أن نعتقد ، أنَّ هذه الرُّؤية يمكنها أن تتدَّعى ، أو تزعم أنها تتجاوز كونها أكثر من مجرَّد فقط ، أقول فقط ، واحدة من عشرات الرُّؤى القابلة جميعها للطَّرح ، والمؤهلة ربَّما لفترة من حين - مثل أخدانها الأُخر -  لأن تُعلن عن كنهها وتفعِّله . هذا الكُنه الذى ليس بالطَّبع مُصاغ صياغة تامَّة ونهائية لا تقبل النَّقض ، بل القابل لكل أفعال الصيرورة وتبدُّلاتها ، سواء بالحذف أوالإضافة أوالتَّلقيح ، بل وحتَّى التَّغيُّر  النَّوعى . دون صوابيَّة مؤبَّدة ، أو تموقف عند محطّ . وكذا أيضا بغير الاستيلاء على الفضاء الإبداعى واستعماره  بمفرده .
    فهذه الرؤيَّة على وعى تام بشروط انبثاقها وظرفيَّته ، والمناخ الذى تتعيش فيه ، ولمن إليه تتوجَّه .
    ثم إنَّ أحداً لا يمكن إلاَّ أن يتفهَّم كون ذاك الوعى المكنوز بالكون الواحد ، والحقيقة الواحدة ، قد انتفى ، ليحلّ محلَّه وعى الأكوان العدَّة ، والحقائق التى لا تنتهى ، حيث المؤقَّتيًَّة شريطة كل حقيقة ، وكل كون .
    حسنٌ . إذن . هذا ما كان يُغالب رغبة لدىَّ فى القول .
    وأضيف أنه بغض النَّظرعن كون أىّ آليَّات إجرائية قد تثبت ، أن هذا النَّص قد جاء عكس هذا الطرح ، أو تخلخله . وهذا ما أخاله جائزاً تماماً بل ويجب . فحسبى فى النهاية تبيان أن ما عرضته ، كان هو بالفعل المنظور الرُّؤيوى الذى انطلقت منه هذه التَّجربة .
    أمَّا ما يمكن أن يتداعى لدى الكثيرين من تساؤلات ، يُجاز فى بعضها الافتراض برفض التَّجربة بكاملها ، فهذا ودون زيف منِّى ، لزوم أىّ طرح يُخالف بالضَّرورة ما استقرَّت عليه فى استكانة ، أجرومية أى وعىٍ فى ظرفية تاريخية بعينها ، بغض النَّظر عن مدى فاعلية هذا الطَّرح من عدمه . 
    حيث أنَّه ، وخلا القيمة التى ينسبها هذا الوعى لنموذجه المعيارى الأحادى المفترض مُسبقاً ، يمنحه كل الشُّروط الواجبة لكى يكون سائداً ، بل وحاجباً ومُجبَّاً لكل ما يُخالفه .
    وعىٌ  يقدِّس المتن ، ويرفض الهـامش ، بل ولا يتـقبله ، ولا يعترف به حتَّى بصفته هامشاً ، إلاَّ إذا صار متناً على شاكلته . محقِّقاً فى هذا صفة الإطلاقية سواء فى قبوله أو رفضه . ومكسبها صيغة نهائية ، بل ونافياً عنه مجرَّد أن يكون فقط هامشاً وكفى . رغم أنه فى السيادة انتهاء ، وفى المتن سكونية رازحة ، وتكلُّس .         
   
   2007 l1l23            
                                                                                                          بورسعيد

" التأويل والمرجعية "
. " حاشية على1      الباتافيزيقا البعدية " *.
 " الكتابة  لا يجب أن تَعنى بل يجب أن تُوجد".

( هل أتى على1 الدَّالِ حينٌ لم يكُن عَنْياً وتَرْميزاً ) .
[1]
اللغَة
مِن
حيثُ
كونها
مادة
إنتاج
وليست
أداة
توصيل
.


    نعم
    عندما تسود الأدبيَّة ، أى عندما تنتبه اللغة لذاتها إلى1     حضورها المادِّىّ الكثيف المُشكِّل لفضاءات النَّص . أى لهذا الحيِّز المسطور  من الفراغ الورقى ، ولجهازها الفونيمى والفونيطيقى والمورفولوجى ، تنتفى بالتالى المرجعيَّة الخارجيَّة للغة بوصفها أداة توصيل أو إخبار ، وتنحاز إلى1     كونها مكوِّنات شكليَّة وليست دلاليَّة ، ومن ثَمَّ لن يكون هناك    مجالٌ لرسالة يُمكن تبليغها بلغة الإيصال ، ولا تمفصُل بين الشَّـكل  ومحتواه الإشـارى ؛ حيثُ النَّص مُوصِّل لمعنى ثابت سكونى  مُطلق  خارجه قبل عملية الخلق . لتكون الكتابة عبر هذا المنظور ماهى إلاَّ عملية تسمح للَّغة بمُمارسة فنونها ، وإنتاج عالماً من ميكانزماتها لم يكن موجوداً من قبل . إذ يتوارى نهائياً مُنشىء النَّص ؛ فاللغة هى التى تتكلَّم ، ولم يعد المؤلِّف هو ذاك الصَّوت الكامن وراء منسوجاتها ، وأليَّات تمظهرها البنائى . فى نفس الوقت الَّذى يتحوَّل فيه السُّؤال عن مدى1 صدق المؤلِّف ليصبح مشكلة زائفة لامعنى لها .
    فإذا كان التوصيل هو غاية النِّظام اللغوى العادى ، حيثُ تتجه جميع العلاقات السِّياقيَّة فيه إلى1  أنْ يكون مسوِّغها الوحيد هو تكريس أليَّاتها للعَنْى ، فعلى1     العكس من ذلك تنحو النَّصيَّة إلى1  طرح هذه الغائية جانباً، والانزياح بجهازها اللغوى نحو محرق تنصهر فى أتونه ملاءات دوالها ، لتتخلَّق من هيولاها عوالم هى على 1    جماليَّاتها عاكفة تفضُّ وتحيك ثمَّ تُحوِّر .
    إذن فليس مُشكل الكاتب هنا مُشكل توصيل ولاهو حتَّى1     بمشكل تشكيل ، بل هو مُشكل تحرير اللغة من براثن مُمارساتها السَّابقة ، وتصوراتها السُّلطوية القَبْليَّة المُتراكمة عِبر مسيرتها الَّتى انتهت بانتهاء فترة فاعليتها . ليكون انزياحها - من منظور هذه المنطقة ، ووفق هذه الرؤية - حتمية استبداهيَّة مُتجذِّرة فى نسق أى بنية نصِّيَّة تستمد شرعيتها من كونها مُندغِمة فى انجاز مُمارسات مَائِزة ومُفارقة ، تطرح عنها وثوقيَّات الأشكال القديمة .
    ومع حراكيَّة  اللغة فى دوائر أشيائها المُنداحَة باستمرار ، والغير قابلة للنَمْذَجة ، تتخلق عوالم ليست كما كانت فى مَتْن غالب الكتابات الماضويَّة تنبع من معطيات العالم المقنن والأرسطى وتحيل إليه، حيث هو المبدأ والمنتهىكمرجعية أولى1 وأخيرة  شديدة النُّصوع ، بل تتحوَّر معطيات العالم المشحونة بها اللغة فى الأساس لتصير إحدى الرَّكائز التى تجعلنا نقول :هذا نصٌ فى صيرورة بنيته الدَّائمة ليس له مسوّغ لكينونته سوى ذاته الَّتى تأبى أنْ يرمقها العالم كتابع ، فهى ترفض التَّرميز كليَّةً ، وتسعى إلى أنْ تكون كائنة بالإضافة ، وفى حالة إختراق دائم وقلْقلَة لرواميز هذا العقل الجمعى بصوره المُقولَبة والثابتة والجاهزة ، والَّتى ليست فى حالة تماسّ مع العالم ، ولا هى معادلة لمنظورٍ من مناظيره ، بقدر ما هى فى لَواحِم صلبه وكنهه .  

( وحضورٍ وما تَشكَّل إلاَّ ليُخاتِل ) .

    غير أنَّه ، تبقى إشكالية العَنْى وتجاوزها هى إحدى1 أهم أنشوطات الجهاز اللغوى لهذه النَّوعية مِن النُّصوص ، فطرائق إنتاج النَّص ، وشروط انبثاق بنياته العلائقيَّة ، تنزاح عن كونها مجرد انساق تصبو فى النِّهاية إلى توليد نُويَّات مشحونة بدلالات يكون حصدها او حتَّى ارجائها لتخزينها هو الهدف النَّهائى ، ليصير تشكلها  واندغامها  فى أنسوجات لغوية تمتح 

[2]
ريبرتوار
معلوماتى
.
شرعيتها من تخلُّقها المتواصِل باطِّراد فى فضاءات ذاتها وعوالمها - تلك العوالم السَّاعيَّة للتَّواجُد كجسم وليس كريبرتوار دلالى - هو المحكّ الرَّئيسى لمدى1 تموضُعها كنصّ فاعل ، لايبتغى التعامل معه كشكل مجرد تُسْتَنْطَق منه مُحصِّلة خارجة عنه من السمانتيكيَّات تُصَب فى عقل متلقِّيه ، بقدر ما يصبو إلى1 مَنْ يتلقَّفه بحسِّيته وحواسه ، ليُمكننا القول وقتها أنَّ هذا النَّصّ قد حقَّق انزياحه عن منطقة التَّعبير أو التَّصوير حيثُ اللفظ معنى1 ، وحيث شرعيته تتحدَّد بالدَّلالة التى يومىء إليها ، إلى1 منطقة التَّواجد حيثُ اللفظ جسم لايسعى أبداً للتأويل بقدر ما يسعى1 إلى1 تأمُّل ذاته فى كثافة الحضور .
    ولذلك فعندما يشير النَّص إلى1 دلالةٍ ما خارجة عنه ؛ فهو فى نفس الوقت يُقصى بل يلغى بداءةً وجوده المُتخاصِر حولَ ذاته لحساب هذا الوثن الدَّلالى . أى أنَّ هذا النَّص ليس هو المقصود بذاته ، أى ليس أصيلاً بالقدر الَّذى ينبغى أن يكونه ، طلما هناك شىءٌ آخر يستطيع أن ينوب عنه مُختزلاً كينونته وهذه فاحشة كبرى1- من منظور هذه الرُّؤية - لم تستطع الكتابة العربية -  إلاَّ وربّما فيما ندر- مجاوزتَها حتَّى1 الآن .
    ومن ثمَّ فالادِّعاء بأنَّ الدَّلالة هى المبتغى1 والمآل أوَّلاً وثانياً وثالثاً ، حتَّى1 ولو تحقَّقت بالتَّكثير والتَّعدُّد والتَّشظِّى الَّذى يُطلق مورته واصطخابه نافياً أىَّ مدلول أحادى ، هو فى النِّهاية تسليمٌ بأننا لايمكن أن نعيشَ أو نتنفس  إلاَّ فى عالم من المعانى ، ولا بد لنا من مُحتوًى ما للدَّلالة نختزله من كثافة هذه النُّصوص حتَّى1 تكتسب بالتَّالى شرعيتها ، وهذا تسليمٌ مرفوض من منظور تلك الرُّؤية ، إذ أنَّ هذا النُّوع من النُّصوص لا يهتمّ بل ولايريد أنْ يهتمّ أو ينقل لنا أىّ معنى1 ما مجرَّداً كوزمولوجياً مهما بلغت عظمته أو سموقه – وما قيمة هذه المعانى وهى فى صيرورة دائمة – يكون مآله التَّخزين فى مَقَمَّة عقلنا ، بقدر ما يريدنا أن نعيش ونتعايش معه كوجود له كثافته الماديَّة المَحض والمخاتلة أيضاً .
    إنَّ الموقف الاستبداهى العميق التَّجذُّر فى منظومة نسيجنا الإدراكى بالإصرار على1 إحالة كلَّ شىءٍ فى حياتِنا إلى1   معنىً ، حان الوقت لأن نعيد مساءلته من جديد ونحاول استقصاء لانحوياته المركوزة فى سكونيَّته الثبوتية .   
    ومن نافلة القول : أتساءل هل عندَ التَّمازج الإيغافى لجسديْن مُترعيْن بعرامة الشَّبق والشهوة ، هل يكون هناك مجال للتَّساؤل عن معنىً ؟! وهل يكفى حينئذ المعنى1 بديلاً دون العجيج الجسدى والولوج المُفتَرِع ؟! بعبارةٍ أخرى1 ، أوَ نحن نرتشف كوب الشَّاى لنبتحث عن معنىً، أو نتعالق معه أو نتحاور مع مدلولاتٍ ربما تكون قد مُيِّعت فيه ؟!
    هكذا يريد منَّا النَّص أنْ نَلِج فى أدغال عوالمه مُشهرين الحواس ، لا نقصد جرثومة عَنْى ، بقدر ما نصبو إلى1 الحياة داخل مجامع ملاءاته وسِنخ تمظهرات الفراغات فيه ، حيثُ الحقل العلائقى شبكة من الكينونات تسعى إلى1 التَّجلِّى والتواضؤ عِبْر توتُّر مادتها وخامها الرَّانى دائماً إلى1 مُجادلة ذاته ومساجلتها ، بل والانشقاق على1 كلِّ ما ينداح خِفيةُ مستقراً بينً ترائب صلبه ، وتقويضه فى تشتت غروىّ صاخب راهج ولا نهائى .
    إنه النَّص الجاحِظ ، المُمعِن النَّظر فى ذاته ، ليس افْتِتاناً ، وليس احتماءً بنفسه من غوائِل الآخر العالم ، وإنما عُكوفاً على مكامعة جماليَّاته وموالجة جَواعِر لواحمها ، بعد استلابٍ ظلَّ مَوصوماً به طوال تاريخه يجيل النَّظر هنا وهناك ، منشغلاً بغيره ، ومُحَصحصاً وراء لغاتٍ أخرى1 غير لغته .
    ومن هنا فالنَّص لايدَّعى معرفته بالعالم ، ولا يطمح لمعرفة زائفة تظنّ امتلاكها للعالم ، خالعةً رُؤاها عليه فى قوالب سلطويَّة مؤدْلَجة، فهو قد طرح المشكلة الكوزمولوجيَّة بمعناها المُزيَّف المتواضع عليه جانباً ، ذلك المعنى1 الذى لاترى1 منه تلك الكتابات - الَّتى تُصِرُّ هذه الرؤية على1 تسمية منطقة وعيها بالماضويَّة ، إلاَّ إذا كانت واعية بشروطها وتختارها عن بينه لبغياتٍ مبررة - سوى1 وجهاً واحداً نمطاً ومكَّرراً . ربما قد تتباين مناظير التعبير عن نتوءاته ووَهْداته الدَّاكنة ، لكنه رغم ذلك مازال رازحاً فى العمق ، كنموذج قار سكونى ثابت يتمّ انْـتِساخ رؤياه بلا نهاية كوَباء عُضال لاتستطيع منه فكاكاً .

( إنما الكُويْئناتُ غبطة فادغل حثيثاً ولا تؤؤِّل )

    إذن لم يعُد الغرض فى هذا النوع من  الكتابة أنْ تصف العالم كما يتكشَّف للوعى ، ولا أنْ تصف الوعى وهو فى عملية الإدراك والإحساس بالعالم – كما كان يرغب روَّاد الرواية الجديدة – بل أصبحت تطمح فى طرحه جانباً ، وموالجة عوالم أخرى1 هى لنُويَّاته مُفجِّرة دونما تخاصُر أو تجرثم أو إحداق بمركز .
    ولهذا فليس الشُّعور ( مع التَّحفُّظ على    هذا المســــمَّى1 ) كما فى مرحلة الكتابة الفينومينولوجيَّة بمستوياته العُليا والدُّنيا هو المحرِّك لعمليَّة الكتابة ، ولا هو المحرِّك الخلاَّق للخيال ، وإنما الخيال المرتبط بميكانزمات اللغة الموضوعيَّة هو المحرِّك الأوَّل للكتابة ، هو مُجَيْنيقها الذى يدفع بهيولى1 هلاميات عوالمها المتخلِّقة باستمرار، فى تكدُّس تراكمى هائل ينحو فى حركة لائبَة، نحو تقويضِه اللانهائى . 
    بّيْد أنَّ هذا الخيال ينطلق دائماً من إنزياح كامل عن جعل العالم بصورته المعتاد نعتها بالواقعيَّة – سواء الكنائية المتماثلة أو الاستعاريَّة المتناظرة – هو مرجعيَّته الأخيرة.    
    لتكون من ثمَّ تيك المنطقة الترميزية بُيَيْت الميتافيزيقا وأفاعيها ، هى الَّتى ما تفتأ تعمل هذه النَّوعيَّة من النُّصوص بجُل طاقتها وجهدها الحثيث المُعارِك على1 الحَصْحَصَة والتَّنائى بعيداً عن  دائرة  شـبكـاتها  وحرابـينها ، قانعةً رغماً   

[3]
استبدال
نموذج
فرناند
دى
سوسير
.
عنها بحتميَّة تلوُّثها بحُراق تياتنها الفرحة بهول أذرعها البالغة فى تمدُّدها الأقاصى ،  وراغبةَ فى نفس الآن أن يكون تمركزُها الكينونى ، ليس مُبتغاه الاستلاب عن ذاتها والإحالة إلى1 دلالةٍ ما يمكن التَّماس معها بوسيط آخر ، بل إنتاج شيئاً له صفة الحضور القريب من الحضور الشيئى ،مستبدلةً فى النهاية نموذج دى سوسير ( الدَّال – المدلول – المرجع ) الذى لايتجاوز عقيدة التَّصوير أو التَّعبير عن الشعور ، بنموذج    ( دال1 – دال2مدلول1 – دال3 مدلول 1-2-3 ........) الَّذى هو الشَّكل وشكل الشَّكل .
    لذا فالألفاظ هنا – كما قلت فى موضع سابق – ليس من بغياتها أن تكون علامات ، أو مُكوِّنات دلالية ، لأنَّها لا تريد أن تحيلنا إلى1 مرجع خارجها ، أو بالأصحّ لا يعنيها ذلك إذا ما حدث بل وتعمل ضده ، محاولةً فى الأساس أنْ تنزاح بقدر ما يمكنها وبقدر ما يحتمل جهازها ،عن كونها نظام سيميائى مُعبِّر، لتطرح نفسها ككُويئنات لاتبغى لنفسها تأويلاً .
    صحيح انها داخل البنية التركيبيَّة للجملة ومن ثَمَّ داخل بنيات العمل الفنِّى تُطلق دلالات علائقيَّة فى صورة شبكيَّات تُظلِّل كامل ترائبه، وأيضاً تَتحوَى1 حولَ سِنْخ نُويَّاته المُتفجِّرة دوماً ، لكنها فى هَبْو تراكمها التَّكدُّسى هذا لا تبغى أن تحيل إلاَّ لداخلها ، أو بمعنى أصحّ لا تطلب من المتلقِّى أن يهتم بذلك ، مُقوِّضةً تماماً العلاقة بين لـُحَيْم الدَّال ومرآة مدلوله كمُرتكَز جوهرى لاتقبل بغيره بديلاً . وبالتالى تَلِج من هنا جرثُومة التَّهتُّـك العظيم لأجـروميَّات اللغة المعياريَّة وأنسـاقها النَّحوية .
    لكن يبزُّ فوراً السُّؤال التَّالى : هل ثَمَّة مجال هنا للتساؤل عن أنَّ مع تأبِّى هذه النُّصوص على1 التأويل بل ورفضه لتَكْريسٌ لصَنَميَّة جديدة تنكر التَّعدُّد وتفضى إلى1 دوجماطيقية أحاديَّة تَتوهَّم وتُوهِم بامتلاك الحقيقة؟ 
    بالطبع لا ، حيثُ أنَّ المُداخلات مع هذا النُّوع من النُّصوص لن تطمحَ أبداً لتفسيره ، والتَّوغُّل إلى جُذْمُور بواطنه المركَّبة لتتخيَّير منهاجية تفجيرها اختزالياً فى معنًى ؛ أو يجب ذلك ، لأنَّ هذه النصوص نفسها لا تزعم بوجود أصلاً هذه البواطن المركَّبة المشْحونة بالمعانى الأحاديَّة أو المتعدِّدة ، وأيضاً لا تهتم بوجودها وتعمل ضدها ( بل يمكن القول أنه توجد تخلُّقات لعوالِم تلتحف بذاتها وتمتح ماذىِّ محيَّاها من دوائر عدم اكتمالها ) أمَّا إذا تَسحْسَحت هذه المعانى عفويَّاً إلى1 صلب خامه – وهذا لابد أنْ يحدث – من خلال بنيات اللغة المتأبِّية دوماً على التَّنطُّس من تاريخانية استعمالاتها ذات الشَّوائب العرفيَّة والابستمولوجيَّة ، فلن يُعوَّل عليها فى حياكة معنًى أو فضِّ غلق لا يتمظهر إلاَّ بالقدر الذى يبتغى أنْ يكونَه ، رازح وكثيف . لتبقى1 اشكاليَّات التَّعامل النقدى معه هى الدُّغول إليه من باب آليَّاته وعناصر انتاجيَّاته المادِّيَّة المحض ، مثل أصعدته الإستراتيجية والتكتيكيَّة / أجروميَّات تشكُّل بنياته / محاوره السنتجماتيَّة والبرادجماتيَّة ودرجات الانزياح نحوهما / مناطير أَنَواتِه الورقية وطرائق تمظهرها / آليَّات تناصّه الدَّاخلى / أنسوجاته البوليفونيَّة / محارق علاقاته الكوديَّة والفونيطيقيَّة / موتيفات تمظهره الفونولوجى / صياغات توالد صوره / تشكيله البصرى فى فضاء الورقة من عناصر لونيَّة ، وخطِّيَّة وترقيم وفراغ طباعى، وكذا أيضاً والأهم وضعيته فى سياقاته الظرفيَّة ، وربَّما أيضا ً فضح ما يزعم أنه ليس من بغياته ويعمل ضده . كل هذا جائز ، وغيره الكثير والكثير ممَّا ستكتشفه محكَّات المُمارسة المتوالية . ومناظير الرؤية النقدية ، تبعاً لمناطق الوعى التى تتماسّ معه .
    وعندئذ لن يكون هناك مجال للحديث عن قصديَّة المؤلِّف كما فى النقد التَّقليدى ، ولاقصدية النَّص كما فى النَّقد البنيوى ، ولا قصدية المتلقِّى كما فى النَّقد ما بعد البنيوى ، بل ولا حتَّى عن أىِّ قصدية على  الإطلاق ، فمفهوم القصديَّة بكل محمولاته الدَّلاليَّة قد انْتَفَى تماماً من هذه المنطقة ؛  لانتفاء المُرتكَز الجوهرى له وهو الإحالة الدَّلاليَّة ، ليصبح الاختلاف فى الخرائط السّيولوجيَّة لأىِّ مُتلقٍّ عن غيره ، هو الاختلاف الحتمى والرَّئيسى – مع الإختلاف بالطَّبع فى منظومات التحليل لكل ناقد –  ليس من خلال أجروميَّة التَّأويل وارساليَّتها ، وإنَّما ، وبقليل من التًَّجوُّز ، من خلال التَّباين فى طرائق التَّعامل الحِسِّى المُخيَّلى مع النَّص . بالضبط مثل التَّفاعل مع أىّ شىء مادِّى له حضوره الكثيف فى هذا العالم . مثل برج كنيسة سامق ، أومُرَيْطاء عارية لإمرأة .   

(كامِع ، كَامِع إنَّكَ لن تَفْتَرِع ولئن دَنَوت ) .

[4]
الأُغْلوطَة
المعياريَّة
وخرائط التَّلقِّى
.

    ولذلك فالمواضعات المعياريَّة الَّتى يتلقَّى1 بها المُتــلقِّى النَّص ، هو أوَّل مايجب عليه أنْ يُقاومَه ، فى رحلته هذه الاستكشافيَّة داغِل تضاريس وتعاريج نتوءاته الباذخة والمتحوصلة حولَ ذاتها ؛ كيما يكون مؤهَّلاً للتماسّ مع أىِّ نصٍّ له حركيَّة بنياته الخاصَّة، ومَنَوِيَّتها الغير مُهيَّأة إلاَّ للنَزِّو والالْتجاج فى رِكْوَة مَن تصيبه جسدانيَّتها بالغُلْمَة ، فيهبّ فوراً لمُكامَعَتها فى ذروة إيغافيَّة نشوانة لا يردُّها رَىّ ، ولا يقصيها عن محرق ذاكرته   ارتواء .
    وفى كلّ مرة يكاد يظنّ أنَّه هاهو حتماً سيفضُّ بكارتها ، يُبْدَه أنَّها مازالت فى الهناك قصيَّة لا تتدانى1 أبداً مقتربة إلاَّ لتنأى1 . فلا استنامة ولا كسل إذن من المتلقِّى إلى مواضعات بعينها اعتادَ عليها ، حيث أنَّه وقتها لن يمكنه التَّعامل مع فضاءاتها وملائها الجُثمانى .
    فالأنموذج المعيارى الَّّذى كان قليل فقط من النُّصوص هو الَّذى يحاول أن يكدح للتجانُف ولو قليلاً عن مَتْنه المُسْتَنْسَخ لم يعد يُخايِل هذه المنطقة أصلاً ، بل اصبحت هذه الكتابة تعمل ضدّ كلّ تمظهرات تجلِّيه ، بل وتطمح فى العمل ضدّ كلِّ معياريَّة على1 الإطلاق .                  
    فكم كان تاريخ الكتابة العربية مُكرَّساً لبديهيَّة طَقسيَّة ، تُلجِّم بنيته الذاكراتيَّة والمخيَّليَّة تُسمَّى1 أنشوطة الاحتذاء . وقد كانت أية محاولة للمجاوزة فى بعض نُويَّات هذه الوثوقيَّات ، من قبيل الخروج الاستحائى على المتن ، الَّذى هو فى الأساس ليس خروجاً بقدر ما هو مردود ظرفى انعكاسى  لمدى التَّكبُّل الَّذى يجد الكاتب نفسه فجأة مُتعرقلاً فيه أثناء مُمارساته . 
    وهو فى النِّهاية لم يكن تجاوزاً لمرتكزات سِنْخ الرُّؤية ، بل كان تكريساً لها ومحاولةً لترقيعها ، وخَتْماً للثقوب الَّتى نُكِئت فى نسيجها المتهرِّىء ، استجابةً على مضض للمتغيرات الهائلة والمتوالية الَّتى يراها تتمُّ حوله ، وأيضاً داخله .
    فالتَّحرًّر من عادات التَّلقِّى المستقرة ، أصبح شيئاً لا بديل له كى يستطيع المُتلقِّى أنْ يتماسّ مع تلك النَّوعية من النُّصوص ، بحسيَّة غير مُدْهَقة بأمشاج مُكامَعاتٍ مارستها فى السَّابق ، وتلوَّثت بنَزِّ عُكْنَتها وسفادِها ، غير هيَّابة ، ولا وجلة من أوَّل مُماسَّة ربما تتأبَّى عليها ، فتشعرها بالقماءة ، أو الدُّونيَّة .

( حتَّى1 إذا ما انْبَجَسَ اليَحْمُوم ، فبالتَّقَوُّض ، فبالتَّقَوُّض )

[5]
إشكاليَّة
الكاتِب
.

    هنا تصبح اشكاليات اللغة وآليَّاتها ، هى أهم مايجب أن يوجِّه الكاتب جُل طاقاته لإتقانها ، والتَّفنُّن فى انجازها باعتبارها ليــست وسيط شفَّــاف ، وإنَّـما مادَّة إنتــاجيَّة تتلاعج لواحمها لتتشكَّل فى تخلُّقات ، لاتجيل النَّظر فيما هو خارجها إلاَّ بالقدر الَّذى يجعلها تدرك ذاتها كوجود مُغاير ، وليس كانعكاس أو تفسير أو تبرير لما هو كائن ، ليكون العمل على اختراق وخلخلة معيارية اللغة فى جميع مستوياتها ، وانساقها همَّا جوهريَّاً من هموم أىِّ كاتب ، إذ فى هذا الاختراق تحريرٌ للإنسان من براثن تللك الصُّورة المُقوْلَبة للعالم ، الَّتى ماانفكَّ يُروْسِمُها من خلال الأشكال والأنماط اللغويَّة الموروثة ، لتصير بعد ذلك مادَّة انتاجيَّة خصبة لحياكة بنيات جديدة ، وتفعيل أشكال مُغايرة لما تُووضِع عليه .  
    ولربَّما كانت نحويَّات النَّص أى الأصعدة الاستراتيجية له – بخلاف نحويَّات الجملة بالطَّبع – هى ما يجب أنْ نسعى بحثيثيَّة  مُنَخْرِبَة لهزِّ منظوماتها . تيك المنظومات الَّتى لم  يعرها الكتَّاب حتَّى الآن هذا القدر اللازم من الاهتمام المُعادِل لقيمتها ، مُكتفين بتوجيه نظرهم إلى جماليَّات اللغة بما هى لفظة وجملة فقط ، وليس بما هى أيضاً بنية ماكروكوزميَّة للنص ، متناسين ربَّما أنَّ هناك ايضاً بلاغة للبنية ، حتى ولو كانت لاتقرّ أبداً وتصبو للتَقوُّض .
    وعـندها يكون الحديث عن فاعليَّة النَّص حديثاً مُسـوَّغاً  ، وأساسيَّاً تُقدَّر من خلاله قيمة أىِّ نصٍّ إذا كان هناك مجالاً للحديث عن القيمة .
    هذه الفاعليَّة الَّتى تتحدَّد بمدى طرحه واستكشافه لاشكاليَّات جديدة ومستقبليَّة تتجذَّر فى جهازه اللغوى ، وتجعله متجاوزاً لوثوقيَّات النَّص الماضوى ومجَّانيَّته ، دونما وقوع تحت طائلة الأغْلُوطَة المعياريَّة ، أو التَّقيُّد بنموذج إنتروبيوى مُتكلِّس ، يحدُّ من انطلاقاته أو يجعله مُخايَلاً بأصفاده ، وكلاليبه فى تَخاتُلِها الدَّائم أنَّى1 توجَّه .
***********
 يمكن تعريف هذه المنطقة الفنية بأنها منطقة ما بعد ميتافيزيقيَّة تحاول ألاَّ تحيلُ إلى أىِّ شىء خارجها ، فكل ماهو خارجها يُعدُّ بهذا المعنى ميتافيزيقياً . 

                                                       1997-7-17                                                               
                                                          بورسعيد

آل الأفاويقية " وعمَّا يصفون ركزاً تغشَّى "
دار ميريت . القاهرة 2007م .
" نصّ" .
" تجربة فى اللغة.
محمد الطناحى .
319 صفحة
تمت كتابته مابين 2-1-1987 ، وحتى 19-8-1997م . 
* 

انظر : الباتافيزيقا البعديَّة ( الوعى المُغاير ) .

*                                            

Facebook Badge


Jobsmag.inIndian Education BlogThingsGuide